ندوبك باللمس تعرفها أصابعي
سركون بولص
1
كيف يحول الشاعر هذا الجسد إلى رمز يفيض جمالية أو يرقى بالدلالة، المتصلة به، لإضفاء معنى ايروتيكي جديد؟ فبين فترة وأخرى تحاول الكتابة الشعرية المغايرة أن تكسر دائرة الاستبداد اللفظي التقليدي عبر اختراقات لفظية مبتكرة تتمثل، وفق ما ترى القراءة النقدية، في الشكل والإيحاء والمجاز والصور الباذخة التي تجترحها اللغة الشعرية نفسها، النص أدناه والمعنون (تفاح أشقر) للشاعر عبدالرحمن الماجدي هو أحد نماذج الكتابة المبتكرة التي جسدت الشكل الايروتيكي في مواجهة النصوص الشعرية الإباحية الملتبسة أو الخالية من فنية اللغة وجمالية الصورة ومستويات المعنى أو الدلالة، لم تقتصر تجربة الشاعر، في هذا النص، على ضرب البنية الفنية للشعر الايروتيكي السائد والمتمثلة ببعض التجارب الشعرية المعروفة وحسب، بل عمد الشاعر إلى تقويض الأسس الايروتيكية للكتابة التي جعلت من النص الشعري الايروتيكي، نفسه، نصاً موازياً للإباحية، ولم يكتف، أيضاً، في خرق معيارية الشعر الايروتيكي السائد بل راح في نصه مادحاً الجسد ومنحازاً إلى المعنى الذي خرجت منه هذه الصور الباذخة، لنقرأ النص ثم نكمل قراءتنا النقدية:
(تفاح أشقر: في ثيابكِ رائحةُ تفاحٍ اَشقرَ، وذكرياتِ أماسٍ ناعمةٍ تداعبُ جبهتك المبكّرةَ بصيفٍ مقيّدٍ بحاجبيك المؤدَّبين، شعركِ الغَسقيُّ يتبادلُ حكايته رعاةٌ مارقونَ بعيونهم المطمئنةِ على الشمس الغرّة الملبّدة، في عينيك، بغيمتين لا تمطران، خدّاكِ القشطيان يُحليّان عسلَا جورياً سهرتْ عليه وصيفاتُ الجنان، شفتاي، دونَ تحفّظٍ، تَسبحان في رقبتك الرخامِ، سعيدتين بالثورةِ المتهوّرة لشفتيك العارفتين مصيرَ الغرقِ في بحرٍ هائجِ الشهوةِ، جسدُكِ المشعُّ يَمتصُّ كتلةَ الظلامِ، في غرفتنا الدكناء على سريرٍ حنونٍ حيثُ حلمتاك الصادقتان تؤكدانِ طعمَ الكرزِ قُبيل القِطاف، إبطاكِ القطنيان يُسبِّحُ بملمسهما لسانٌ صَدوقٌ، خَصرُكِ الخائفُ يشهقُ ولا يُغاث الاّ بطوقٍ نحيلٍ فوقَ ردفيك المراهقين يقسمهما خيطٌ خريفيٌّ ينكشفانِ في صبيحةٍ رَحيمةٍ، أصابعكِ فتيةٌ مؤمنونَ يطوّقون كفيَ الكافرَةَ بسياجِ اليقين، ركبتاك العنيدتان ترشدان النورَ الى فخذيكِ المتسلطّين، فيما عانتكِ الزغباءُ تصغي للفرجِ المكتنزِ بعافيةِ النكاحِ يعلنُ عطشَه البعيدَ، أظفاركِ العقيقُ يتناوبُ على صقلها صبيانُ الصاغةِ المبهورين بفتوّةِ ساقيكِ المتشبثتين بطفولة الجلدِ الأنيق، الفجرُ الأرعنُ يتناهض في فراشه الدافئِ، تباركتْ رعونتهُ الحميدةُ ونحنُ نصقلها بما تدلّى من ذيلِ الظلمةِ المارّة بصُحبتنا الخرساء . لنْ نتحدث، أعلمُ أن لسانكِ السعيدَ يُمنطقُ الصمتَ، ويربي طائرَ الكلام كي يلتقطَ حبّاتِ حكمتهِ، بحكمةٍ، من أرض السؤال، فدَعي جسدَينا يتجاذبانِ قسطهما من حبلِ الصدقِ في فتنةِ ليلٍ قصيرٍ) .
عن الشعر ودلالاته ..
فهم ما هو مكتوب أو مدون ومنشور هنا وهناك شيء والوصول إلى جوهر جماليته وفنيته ودلالاته شيء آخر، من هنا يمكننا التساؤل ثانية: هل يمكن القول عن قصيدة الشاعر (تفاح أشقر) إنها قصيدة غزل عُصابية؟ فإن صح ذلك فما هي ملامح هذه العصابية، قد يبدو للوهلة الأولى إنها تتجلى في هذه الجغرافيا المتمثلة بهذه الالتقاطات المتصلة بالجسد وتفاصيله: (جسدك المشع: شعرك الغسقي، الغرّة الملبدة، خداك القشطيان،رقبتك الرخام، شفتيك العارفتين، إبطاك القطنيان، حلمتاك الصادقتان، خصرك الخائف، أصابعك فتيةٌ مؤمنون، ركبتاك العنيدتان، اظفارك العقيق، بحاجبيك المؤدبين، لسانك السعيد يُمنطق الصمت ويربي طائر الكلام) وهذا يعني أن الشاعر يستمد مقومات غزله من معنى الآخر (المحبوب) وتبدو القصيدة، أيضاً، مفعمة بتعابير تحيل، بطريقة مباشرة، إلى الإحساس بالغزل في معناه الرمزي إذن، هذه القصيدة تجعلنا نقرأ أثراً غزلياً مغايراً مثلما تضع القارئ أمام نفسه، أعني أمام شعوره الحميم . لقد أخذ الشاعر في قصيدته كثيراً من الخصائص الأسلوبية والفنية من الصوفية، بالإضافة إلى المواقف الإنسانية الوجدانية، في العلاقة بين الرجل والمرأة، ناهيك عن الفضاء الرؤيوي المشحون بالوعي الايروتيكي الكشفي، وأصبح الشاعر، من هذا المنظور، دليلاً لعين القارئ وعقله وعاطفته، ورائياً ايروتيكياً عبر هذا الأفق المتمثل بلا نهائية المعنى الشعري، الذي يتجاوز بحدسه حدود الجسد ويخرق بتأمله حدود الرؤية التي تمجد أو تحتفي بالجسد بطريقة شعرية مغايرة . في هذا النص، أيضاً، يريد الشاعر أن يصل بالجسد نحو معانٍ أكثر أجلالاً مثلما يريد أعلان شأن الحسي كما تبرهن على ذلك نبرات مفردات النص، وثمة أقنعة صوفية تشتبك مع المعنى وتهجر الوعي التقليدي المشاع والمتعلق بالجسد، وهذه الأقنعة أيضاً تفجر اللغة الشعرية شأنها شأن الرغبة الجنسية، وتكشف، في الوقت نفسه، زيف الحشمة الاجتماعية المنافقة، لنتأمل هذه الإشارات: (في ثيابك رائحة تفاح أشقر/ذكريات أماس ناعمة/وصيفات الجنان/طعم الكرز قبيل القطاف/فدعي جسدينا يتجاذبان قسطهما) .
2
خطاب الشاعر الايروتيكي، في هذا النص، للمرأة أحالني، بفنيته ولغته، إلى الشاعرة الايرلندية “ماري دورسي” وهذا المقطع الذي تخاطب فيه الرجل خطاباً غزلياً ايروتيكياً: (فمك مثل بستان ملؤه الفاكهة يقطر عسلاً على لساني/ترجمة شاكر لعيبي) فثمة غزل، يكتبه الشاعر عبدالرحمن، يُخرج المعنى من المعنى ويتعاطى مع المقدس بطريقة لا تستدعي المخاوف ولا الطهرانية الزائفة لنقرأ هذه العبارة الشعرية: (خذاك القشطيان يُحليان عسلاً جورياً سهرت عليه وصيفات الجنان) . هناك علة تمنع الشاعر من الكتابة الايروتيكية متصلة بالمفهوم الخاطئ أو النظرة الملتبسة للجسد، ثمة من يتعاطى مع الايروتيكا بطريقة الحب العذري، مع العلم أن هذا الأخير هو (نوع من التسامي على الرغبة الجسدية، عند العرب) وثمة من يتعاطى مع الايروتيكا بطريقة الشاعرة المصرية الفرنكوفوتية جويس منصور المتماهية مع الشكل التقليدي للنظرة الوصفية المتعلقة بالجسد حيث تبدو الصور الشعرية وكأنها تحمل الكثير من المبالغات أو تتحصن خلف سواتر الجمل الشعرية المباشرة التي تقوض جمالية المعنى إذ تكتب: (حمّى عضوُك سلطعون) أو (التلفون يرنُّ وقضيبك يجيب) ما هذه الجمل؟ أهذا هو الشعر الايروتيكي؟ وثمة من تكتب كالشاعرة اللبنانية جمانة حداد متوهمة أو متدرعة بالجرأة، وأعني طبيعة اللفظة الشعرية المكتوبة بطريقة مباشرة لا صلة لها ببنية اللغة وجماليتها أو المعنى والدلالة، لنقرأ ما كتبته الشاعرة جمانة: (ألتف على قضيبك كأفعى) أو (فرجي كرسيّ اعترافك) فهذه الجمل لا تعتبر جملاً شعرية ايروتيكية بل جملاً متبرمة منفرة، بمعنى أنها، جدلياً، نتاج مخيلة هزيلة أو عقم جمالي لم يبارح المعطى الإشكالي في المجتمع الشرقي وظل يحاكيه أو يطابقه، وقد تكون فكرة التعري اللفظي هي أوضح صورة لما لا يكاد يتضح أو ينجلي، ولما يعتريه من اللبس والجرأة المصطنعة، فالنص الايروتيكي مرتبطاً، فنياً، بتحولات الذائقة الشعرية وتمرد القارئ النقدي على الانماط المستهلكة في الكتابة الشعرية، وإذا كانت أغلب الكتابات تنسب بدايات التحول المعرفي ـ الجمالي ـ الفني نحو قصيدة ايروتيكية فإن الحقيقة الوحيدة تظل كما وصفها شاعر القصائد العارية حسين مردان بقوله: (إنها نوع ليس له شكل ثابت) والواقع الشعري اليوم يؤكد هذه الاوهام المتصلة بالجرأة أو تلك المستعارة لسياقات القصيدة المصطنعة والمتصلة بتجربة غير مكتملة فنياً ولغوياً وذاتياً، إضافة إلى ديوان الشاعر سعدي يوسف (ايروتيكا) فهو على الرغم من قوله على غلاف الديوان: (القصائد في هذه المجموعة الصغيرة مدائح للجسد، جسد المرأة/النصوص محايدة فهي معنية بمعاينة الجسد أكثر من معاشرته) لكنه يكتب في قصيدته المعنونة (الهدوء) ص 36 من الديوان ما يتناقض وقوله، بطريقة لا تخلق أطر جديدة للشكل والاستعارة أو المجاز والتشبيه وما يوازيهما على مستوى المحسنات البديعية: (لا تزالين في وقدة اللمس تنتظرين قضيب النحاس الذي يرتخي ذابلاً دامعاً) من هنا يمكننا القول أيضاً، إن أسوأ ما لحق بالنص الايروتيكي هو إدغامه بالجسد، بغض النظر عن ما يقوله البعض المشار إليهم أعلاه، هذا الإندغام الذي تحول إلى مبرر أو وهم شعري ـ فني تُصفى به كل الحسابات اللغوية والرمزية في النص الشعري الايروتيكي . ولا تُعتبر كتابات البعض الايروتيكية التي أشرنا لها مُحصلة لصيرورة فنية في تاريخ الكتابة الشعرية الايروتيكية بل كتابة خارج دائرة التجربة الذاتية المتواصلة أو المتصلة بهاجس اللغة والصورة والرمز .
أن ميزة هذا النص (تفاح أشقر) الأساسية هي في كونه يسمي الأشياء بأسمائها، وأعني الأسماء التي تمنح القارئ شكلاً جمالياً لجغرافية الجسد، رافضة أن تتلظى وراء الكتابة الشعرية المقنعة أو تلك التي تتعاطى مع الجسد بطريقة إباحية فجة أو خالية من الحس الفني والجمالي للمفردة الشعرية أو تلك الخالية من لغة المشافهة الشائعة التي يتبادلها الناس في الأزقة والحانات وغرف النوم، إضافة إلى أن الكتابة الشعرية الايروتيكية لا تذهب بالنص إلى دلالته الشهوانة المحضة أو المجردة بل إلى دلالته التي تخترق النظرة المألوفة للجسد وطهرانية التعاطي معه، إن إيروتيكية هذا النص جوهرية وهي كتعبير عن امتلاء الروح الإنسانية الخالصة وتداعياتها الوجدانية .
*عبد الكريم كاظم كاتب وناقد عراقي مقيم في المانيا
الموضوع نقلاً عن مجلة أدب فن
إشارات:
1ـ تفاح أشقر/شعر/عبدالرحمن الماجدي/موقع كيكا
2ـ ايروتيكا/شعر/سعدي يوسف/دار المدى/الطبعة الثالثة 1997
3ـ جويس منصور/صرخات/شعر/ترجمة بشير السباعي/موقع جهة الشعر
4ـ الازهار تورق داخل الصاعقة/حسين مردان/1972
5ـ كتاب الجيم/جمانة حداد/الدار العربية للعلوم ناشرون 2011