...
أظن أن "اكتشاف" أن الصواب ليس اكتشافا، يشكل ابتداء البحث عن الصواب. ويفترض أن ذلك يغير وجهاتنا السياسية والفكرية والإصلاحية.. وكل شيء. إنه يعني، ببساطة، أن الصواب غير موجود في الواقع؛ هو ليس حالة قائمة نبحث عنها، وليس نقص المعرفة هو الذي يجعلنا لا نعرف الصواب، فالمعرفة لتقدير أو تخمين الصواب لا تكفي. ولكننا نقترب من الصواب بالحكمة والإبداع. ويظل هذا الصواب الذي أنتجناه صوابا ليس لأنه صواب في واقع الحال، ولكن لأننا لم نقدر بعد على تطويره إلى منتج أفضل. هو صواب ما دام قادرا على الصمود في وجه الأسئلة والاختبارات، لكنه يظل دائما تحت مطرقة المراجعة والسؤال، ليتشكل ويعيد تشكيل نفسه على نحو دائم ومتواصل.
يجري في جدل المواقف والبرامج قفز إلى البحث عن الحلول والإجابات، من دون إقرار بالأسئلة والمشكلات. ثم يتحول النقاش إلى محاولة لإثبات العجز عن الإجابة أو تقديم حلول ملائمة. ولا بأس في ذلك، إذا كان مستمدا من الموافقة على المشكلة والترجيح بين الحلول والإجابات الممكنة والمقترحة. ولكنه غالبا ما يكون رفضا للإقرار بالمشكلة، وليس سوى دفاع عن فكرة قائمة أو أمر واقع، دفاعا مستميتا؛ وكأن الصواب قلعة لا مجال إلا للاحتماء بها أو الدفاع عنها. هذا الاستدراج إلى طرح الإجابات والحلول قبل الاتفاق على الأسئلة والتحديات، لا يخدم تطوير الأفكار، فهو ليس سوى عملية دفاعية لا فائدة منها ولا أهمية لها، سوى الحفاظ على الخنادق وصيانتها وإدامتها.
ذلك، وببساطة، أن الصواب بما هو غير موجود مسبقا، ولكننا نصنعه نحن بأنفسنا وبما نبذله من سؤال، فإنه حالة تتشكل وتتطور لتقترب من الصواب المطلق. ولا ينشأ هذا الصواب إلا في تفاعل جدلي سليم مع الأفكار والحالات، قائم ابتداء على النسبية وعدم اليقين. أما الشعور بالصواب المطلق، فلا يخدم المراجعة والتفكير.
ولكننا في ذلك معرضون لزلل أكبر بكثير من التمسك بفكرة أو حالة على أنها الصواب. فالحجة القوية لا تكفي لإنتاج الصواب. وكلما تقدمت لدى المرء القدرات المنهجية والعلمية، تزيد الحاجة بالقدر نفسه إلى السمو الروحي والنزاهة والأخلاق الفاضلة.. لأن التقدم العلمي والعقلي بلا تقدم روحي وأخلاقي، يهدد بتحويل العلم إلى أداة للشر والتضليل. فكلما تقدمت المعرفة، تزيد الحاجة إلى الصمت والاستماع، ليتمكن المرء من استيعاب وإعادة إنتاج المعرفة، ولئلا يحلّق وحيدا ويتيه في الكون والحياة.
المعرفة تقاس جدواها ومحتواها بالحكمة والإبداع. فإذا لم تمنح المعرفة صاحبها حكمة وإبداعا، يتحول إلى مستودع أو "سي. دي" للمعرفة. وتبدأ خطوات تحويل المعرفة إلى حكمة، بالارتقاء الروحي، ثم بتنظيم المعرفة وتحليلها وإعادة إنتاجها ومزجها بالمعارف الأخرى؛ ففي تخوم التخصصات ومجالات المعرفة تتشكل الاختراعات والاكتشافات والإضافات.
لا نحتاج لأجل الصواب سوى أن نسأل بنزاهة واهتمام!