عن كثب/متابعات...
يقولون أن التاريخ يعيد نفسه والأحداث تتكرر كما لو أننا نشاهد فيلمًا سينمائيًا مستخدمًا تقنية الـ “فلاش باك”، فبين أول ثورة حدثت في مصر -نهاية حكم الأسرة الفرعونية السادسة آبان عهد الملك بيبي الثاني- وثورة 25 يناير 2011، تشابه كبيرًا فيما طرأ على البلاد من تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية، لكن يظل احترام قيمة العقل هو الفارق بينهما، فالدولة القديمة احترمت الآخر وفكره ورأت في ذلك احترامًا للإنسانية ذاتها، ففي أحد تعاليم الحكيم بتاح حتب نقرأ «إن سوء الحظ قد يذهب بالثورة، ولكن قوة الفضيلة هي التي تدوم، طوبى للرجل الذي يتمسك بالفضيلة ويسير على هداها».
هنا «حتب» يضعنا في مواجهة صريحة ومباشرة مع الثورات وتغيراتها، فليس حتمًا أن تنجح الانتفاضات الثورية وتحقق أهدافها السياسية كاملة، فهناك تغيرات فكرية واجتماعية جذرية تصاحبها أيضًا، وهو أمر واقع شاهدنها بأعيننا عقب ثورة 25 يناير وظهرًا جليًا في الشارع المصري، فهناك تغييرات جيدة لاقت قبولًا وأخرى لفظها المجتمع ورفضها تمامًا، ما يقول أن مكتسبات الثورات ليست بالضروة تحقيقًا لأهداف سياسية بقدر ما هي انتفاضة وصحوة للفكر والعقل الإنساني، وهو ما أدركه المصري القديم وأكد عليه «حتب» في تعاليمه كالذي ذاكرنها.
غدًا تحل الذكرى العشرين لليوم العالمي للكتاب، تلك المناسبة التي يحتفل بها العالم احترامًا وإجللًا لقيمة العلم والمعرفة، فنرى المكتبات المتنقلة تطوف شوراع وميادين دول أوربا وأسيا وتهدي المواطنين الكتب والابتسامات، أما هذا اليوم بالنسبة لنا نحن المصريين يختلف كثيرًا عن سابقه، فهو يأتي هذا العام حاملًا اختبارًا لفضيلة العلم وقيمته لدينا، ومفارقة تجبرنا على الخجل من أنفسنا أمام العالم، جمعينا يتذكر جيدًا حادثة مدرسة “الفضل” التابعه لمحافظة الجيزة، وما قام به مجموعة من الأساتذة والتربويين بحرق عددًا من الكتب الإسلامية أمام أطفال لا ليس لهم دورًا في أي معارك سياسية أو دينية كانت، الأمر الذي لم يصدقه الكثيرون عند سماعه للوهلة الأولى، حتى خرجت علينا بثينة كشك- مديرة مديرية التربية والتعليم بالمحافظة، وأكدت أن حادثة حرق الكتب صحيحة، مبررة ذلك بأن الكتب التي تم إعدامها بالمدرسة ضد الدين الإسلامي وتحرض على العنف، وتحتوي على أخطاء دينية وقانونية غير مسموح بتداولها، وغير مطابقة للمواصفات التي نصت عليها وزارة التربية والتعليم، كبعض الكتب التي تتحدث عن “أخطاء في القرآن الكريم”.
هذه الحادثة تحمل كثيرًا من الأبعاد الاجتماعية والنفسية وتكشف مدى الانفصام والتناقض الذي يعيش فيه المجتمع المصري، ففي الوقت الذي يستنكر فيه ما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق «داعش» من عمليات حرق وتدمير لكل ما هو غير آدمي وإنساني، يقبل المجتمع على مثل هذه الأعمال المشينه ويحرق الكتب بدلًا من الرد عليها بمثلها.
كثر القول في استنكار هذه الحادثة وأخذت وسائل الإعلام في التنديد بها، وهناك من فزع وساوره القلق، إنها المرة الأولى التي يشاهد فيها هذه الجريمة المعرفية، لكن علينا أن نهدأ من روعنا قليلًا وننظر للأمر في حقيقته مع الكاتب الكبير سعيد الكفراوي، الذي لم يبد أي اندهاش عند سماعه بهذه الحادثة، لماذا؟، لأن «الكفراوي» بحث في الجذور وتتبع مراحل تدهور الفكر المصري وانحداره، فهو يحلل هذه الحادثة ويراها نتيجة طبيعية لواقع غابت عنه الحرية والاستنارة، وانهارت فيه الثقافة مع انشغال كل فصائل المجتمع بـ”لقمة العيش” على مدار60 عامًا من الاستبداد السياسي وغياب القانون، وبالتالي يكون الأمر طبيعي عندما يفرز المجتمع هذا النوع من السيدات والرجال الذين يقبلون وهم في قناعة تامة على حادثة كهذه، ويحرقون الكتب في فناء مدرسة ويهللون ويصرخون فرحًا رافعين علم مصر وكأنهم حققوا انتصارًا عظيمًا على مجموعة ورق.
يصر «الكفراوي» أن ما حدث لا يدعو إلى الدهشة، كيف؟، يجيبنا على ذلك بقوله: ما حدث هو محصلة لتجاوز سنوات من الهزيمة النفسية والروحية التي عاشها المصريون، لا أنكر أني كنت أطمح أن تحدث بعض التغيرات مع ثورة 25 يناير، لكن مع الوقت يُثبت لنا أن المصريين كُتب عليهم أن تنقصهم بعض القيم الحضارية، لذلك لا أرى أيضًا دهشة أو استنكار من رؤية التلاميذ والطلاب لعملية حرق الكتب في فناء المدرسة، فهم يرون ما هو أفظع وأغلظ من ذلك عبر شاشة التلفاز.
أثناء حالة الاستنكار الإعلامي والمجتمعي الذان صاحبا هذه الحادثة، حاولت «كشك»، تبرئة نفسها وأنها ما فعلت شئ سوى تنفيذ ما هو متفق عليه مع وزارة التربية والتعليم، ما زاد الأمر سوءًا وبدأ البعض يتسائل كالدكتورة منال عمران- أستاذه علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية، كيف توافق الوزارة على ذلك وهي تحارب الإهارب؟، ولو افترضنا أن الوزارة سمحت باستبعاد الكتب من المدرسة، لماذا لم تصادر بأسلوب أفضل من الحرق بعيدًا عن الأطفال؟
محاولات مديرة الإدارة التعليمية لم تحمل لها سوى مزيدًا من التذمر والاستنكار لفعلتها، فالدكتور طه أبو الحسين- استاذ علم الاجتماع، رفض مبررها وحُجتها قائلًا: لا هناك شئ يبرر ما حدث، فالكتاب يُرد عليه بكتاب وليس بحرقه، فهذا الأسلوب يقودنا لأفكار جديدة من العنف كالأعمال التي يقبل عليها “داعش”، وما قامت به هذه المدرسة يدل على عدم احترامها للدولة والقانون، لذا لا بد أن تُحاكم هذه الإدارة على ما اقترفته من مخالفات قانونية وإنسانية.
لأنه استاذ علم اجتماع تكون معالجة المواضيع عنده ليس بأمر هين، فهو لم ينظر إليها كحدث وقتي، بل حادثة تحمل تطورات وتبعيات على المدى القصير والطويل سترهقنا كثيرًا عند ردعها، لذا كان مشهد حرق الكتب أمام الأطفال، أمرًا أثار حفيظته واستياءه، فيقول منفعلًا: علينا أن ننظر إلى نفسية الأطفال الذين تم أمامهم حرق الكتب، فهذه المدرسة لم تحترم عقول تلاميذها، وفعلتها هذه ستنمي العنف لديهم، فبدلًا من أن تشجعهم على استخدام العقل عند مواجهه ما يخالف رأينا ومعتقادتنا تحرضهم على العنف.
حالة الغضب العارمة التي صاحبت هذه الحادثة، دفعت الدكتور محب الرافعي- وزير التربية والتعليم، إلى تحويل «كشك» إلى التحقيق ووقفها عن العمل، لكن هذا القرار لم يخمد النار، ولن يمحي صورة الكتب وهي تحترق من أعين الطلاب، الأدهى من ذلك أننا الآن كمجتمع مصري، شريحة كبيرة منا تعترض على هذه الحادثة وأخرى تؤيد «كشك» في فعلتها، وهم المعلمين التابعين لإدارة الجيزة التعليمية، معللين تأيدهم هذا بأنه يجب التخلص من كتب الإخوان، هنا سؤالًا يفرض نفسه هل حرق الكتب سيخلصنا من فكر الإخوان؟ ماذا نختلف عن “داعش”؟نعم تختلف في الغاية لكن نتشابه في استخدام الوسيلة “الحرق”.
كل هذه الاضطرابات ووزارة الثقافة صامتة، لا نعلم إلى أي شئ كانت تنتظر؟، حتى تخرج علينا بعد فترة ببيان وزاري تعرب فيه عن قلقها ومستنكرة الحادث واصفة إياه بالإرهاب الفكري والمعرفي، هل هذا كل ما تستيطع الوزارة القيام به؟ إصدار بيان اعتادنا على رؤياه عقب كل اعتداء، متى تبادر هذه الوزارة وتبدأ حملتها نحو التنوير الحقيقي حتى لا نرى مثل هذه الحوادث ثانية؟، أسئلة كثيرة تواجهه هذه الوزارة من آن لأخر لكن تظل جامدة لا تجد من يجيب عليها.
البديل