GuidePedia


اسماعيل القاسمي..

من المؤسف أن يقف المرء على سياسات أنظمة عربية، لا تزيد عن كونها بنت لحظتها، عارية من أي تخطيط مسبق، معدومة الرؤية الإستراتيجية، قائمة في أغلبها على مواقف شخصية، تختزل مصالح الشعب  والدولة، في عناصر بشرية متقلبة الأحوال بطبع الخلق.

أقدم هذا بكل وضوح وصراحة، مع علمي أنه خارج عن أساليب الدبلوماسية، وعادة ما يتعرض صاحب هذا الخطاب لهجوم شرس يتجاوز الانتقاد إلى السباب والشتائم، وفي أحسن الأحوال للاستخفاف والازدراء، غير أني أرى في مثل هذا المقام ضرورة استفزاز العقل وتحدي العواطف الوهمية، وأعني تلكم التي تعكس عصبية منفلتة العقال، منها التي ترتدي قناعا قُطريا أوطائفيا أومذهبيا، وأسفل مداركها قناع الولاء الأعمى للنظام الحاكم، وفي مجملها أقنعة قبيحة المنظر مشوهة التقاسيم، فاقدة لأي لون يحجب حقيقة ناصية صاحبها، تذكرني بقول محمود درويش كلما تعرضت لامتحان: سقط القناع عن القناع.

لن أعود لخيار النظام المصري عام 1978، حين قرر علنا ونهائيا استثمار نصره عام 1973 الذي يعود الفضل فيه للدعم العربي منذ عام 1967، وكان للجزائر فيه السهم الأكبر، بإعادة بناء وتسليح الجيش المصري، ثم لقوات الدفاع العربية المشتركة (التي ينادى بها اليوم)، وركائزها القوية العراق وسورية   والجزائر، التي بحضورها الميداني وبطولاتها التي مهدت وذلّلت، عقبات النصر أمام الجيش المصري. أقول لن أعود مطولا أمام استغلال هذا الموقف الداعم بالمال والأرواح والسياسة لتحقيق النصر، ثم التنصل فجأة من العالم العربي عام 1978، والتي مهد لها أنور السادات بزيارة القدس 1977 نافضا يده من يد الراحل حافظ الأسد، وبعد رحلة للتشاور قادته لإيران والسعودية ورومانيا، وانتهت باللقاء السري في المغرب تحت رعاية الملك، جمع بين موشي ديان وزيرا لخارجية العدووحسن التهامي نائب رئيس الوزراء؛ ولن أتوقف أمام خطاب الرئيس أنور السادات في مجلس الشعب، الذي تبرأ فيه من الانتماء للأمة العربية، معللا انقلابه الصبياني بالمصلحة العليا لمصر وشعبها، مبشرا بأن مليارات الدولارات ستتدفق على بلده وهذا كل ما يهمه، وبالعنجهية المعروفة لدى الإخوة، يرفع صوته ساخرا بأن الشعب المصري لم يعد من لحظتها في حاجة لا للعرب ولا لدعمهم المالي؛ واعدا بأن مصر ستعرف طفرة من النمو، ترفعها في بضع سنين لمصاف الدول المتقدمة؛ كل هذا موثق ومثبت صورة وصوتا وتأريخا، في كتب المختصين لمن يريد التحقق من المواقف الانقلابية المزاجية لدى القيادات العربية.

وعادت مصر إلى جامعة الدول العربية 1988 ولم تتحقق نبوءة ولا وعود رئيسها، بل على العكس تماما، فقد ارتهنت لمساعدات أمريكية تافهة القيمة، إذا قيست بحجم مصر وحجم تضحيتها بمن كانوا سببا رئيسيا وفعالا، في تحرير أراضيها واستعادة هيبة جيشها وكرامة شعبها؛ ومرة أخرى عام 1990 يقرر النظام المصري بيع المواقف وليس اتخاذها  بناء على مصلحة الشعب، ووفقا لمنظور بعيد الأمد، واختار خلاف ما عرضته الجزائر وسلطنة عمان، أن يمضي وراء الوعود بتدفق مليارات الدولارات من دول الخليج، التي كان يسخر منها بالأمس؛ عام 1991 ترفض القيادة المصرية كرأس حربة للمحور الذي تدرّع  بها حينها، تفعيل مادة الدفاع العربي  المشترك لتحرير الكويت، وعصفت كما غيرها بالمادة الثامنة من ميثاق جامعة الدول العربية، والحجة لم تختلف عن تلكم التي قدمها أنور السادات 1977 وهي تدفق مليارات الدولارات على مصر؛ ومرت على الحُجّة الأولى قرابة أربعة عقود، وعلى الثانية قرابة ربع قرن، لتعلن القيادة المصرية اليوم على شعبها، أن لا شيء تحقق من ذلك، بل وأخطر منه أن مصر تقف على عتبة الانهيار الاقتصادي، وتتخبط في ديون كما يقولون لها أول     وليس لها آخر.

وهاهي مصر اليوم 2015 ومع مطلع هذا العام، تحشد قيادتُها العالم بشرم الشيخ طلبا للنجدة المالية (مليارات الدولارات)، وبرعت هذه القيادة في استصراخ الأشقاء، الذين برعوا هم كذلك بدورهم في استغلال مثل هذه الفرص، فالأنظمة والدول قطعا ليست جمعيات خيرية، حتى وإن حاول زعماؤها تصوير ذلك للعامة.

 و ها نحن اليوم نقف ثالثة أورابعة، أمام تقلب مواقف القيادة المصرية وتضاربها الصارخ، وتعود دون الالتفات لما سبق منها في 1991/1990، محاولة إحياء معاهدة الدفاع المشترك، لكن ليس وفق الأصول التي قامت عليها أساسا، واللافت هنا في تعارض ظاهر مع الدول التي دعمت مصر (الجزائر-العراق-سورية) حتى لا نقول تصادما بيّنا وعلنيّا؛ هذه المبادرة التي أحيتها القيادة الحالية المصرية، بدعم خليجي واضح، رفضتها الجزائر في شكلها الأول، الذي كان ملزما لكل الدول العربية، وأخطر ما فيه صلاحية التدخل العسكري دون العودة لقيادة البلد العربي المستهدف، دون أن ننسى استثناء شاذا لفلسطين المحتلة من قائمة الدول المرشحة للتدخل العربي؛ وبعد جلسة مطولة مع وزيري الخارجية رمضان عمامرة  وسعود الفيصل عشية انعقاد القمة، وبدعم أربعة عشر دولة عربية، وقفت في وجه المشروع المصري الخليجي من ثماني دول فقط، أفرغت الجزائر قدر الجهد هذه المبادرة من الألغام المتفجرة التي كانت تنطوي عليها، لتنتهي في مجملها بنقطتين، المشاركة اختيارية وليست إلزامية، والتدخل يكون بناء على طلب من السلطة القائمة على البلد.

أنظمة الخليج التي قدمت قبل هذه القمة وعودا بعشرات المليارات من الدولارات لمصر، وضعت الأخيرة في موقف لا تحسد عليه شهرا بعد ذلك في  القمة العربية، التي استبقتها بيومين فقط بهجوم عسكري صب حمما من القنابل القاتلة على دولة عربية، ضاربة عرض الحائط كما العادة ميثاق جامعة الدول العربية،  وحتى تلكم المادة التي استدل بها الأمين العام لجامعة الدول العربية، لتشريع العدوان السعودي على اليمن، وأعني المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، حين عدتُ لنصها باللغة العربية المعتمد لدى هذه الهيئة، لم أجد علاقة له على الإطلاق بما تفضل به الأمين العام مع الأسف الشديد، واتضح لي حجم التدليس وليُّ عنق النصوص، بشكل لا ينطلي حتى على الطفل فضلا عن أهل الاختصاص.

يبدوأن النظام في مصر لم يغيّر سياسته حتى وإن عرفت البلد تقلبات شكلية، ومع علمه بأن الجزائر     ومن معها من الدول العربية، هم عمليا الذخيرة الحيّة لمصر في مواجهة أي إشكال خطير قد يعترضها كما في 1967 إلى 1974، ولا أدل عن هذه المعرفة من تقديم السيسي للجزائر في أول زيارة له خارج مصر  بعد توليه مقاليد الحكم، خلاف ما صرح به، وكانت بوابته الوحيدة للعودة إلى الاتحاد الإفريقي، التي مهدت بشكل ايجابي لمعالجة ملف النيل، ولن أشير للدعم بالطاقة والغاز، وقد كاد يتسبب فقدهما في مصر أيامها لاضطرابات حقيقية؛ وتعلم القيادة في مصر بأن الجزائر في مواقفها هذه تمتنع مبدئيا عن تسويقها في الإعلام كما يفعل غيرها، وتعلم أهم من ذلك وهوأن مواقف الجزائر ليست للمتاجرة   ولا للمزايدة أوالابتزاز السياسي كما دأب عليه الغير؛ (راجعوا مثلا مقال د.محمد المسفر بعنوان: الأردن غير باكستان والمغرب ومصر 2015/04/12 العربي الجديد)، أوتصريحات شخصيات إماراتية رسمية ردا على موقف البرلمان الباكستاني؛ مع ما سبق ذكره للضرورة من خطوط عريضة، نرى الموقف المصري من العدوان على اليمن متردد، بل يجنح ثانية لإغراء مليارات الدولارات.

 الموقف اليوم يختلف عن مشهد 1991-1990، فالأخير حدث فيه احتلال العراق لدولة الكويت، وهذا ما لم يفعله اليمن ضد السعودية، بل ولم يهدد بذلك ولم يسجل عليه على الإطلاق أدنى خطر حيال المملكة، ثم القيادة في مصر كما غيرها من الأنظمة في العالم المعنية بالمنطقة، عربية كانت أم غيرها، تعلم علم اليقين أن اليمن بلد فقير، لا يملك القدرة أصلا على تهديد السعودية فضلا عن احتلالها، وتعلم في المقابل بأن المملكة لها ترسانة عسكرية تكفي وتزيد بكثيرعن حاجة الدفاع عن نفسها أمام الجيش اليمني المحتمل عدوانه، ويكفي ما نراه اليوم بأعيننا كدليل قاطع على صحة ما نقول؛ إذن إن كان قد التبس الأمر على النخب والناس عام 1990 نظرا لقوة العراق المتورمة ساعتها، فاليوم لا يمكن الاعتماد على التباس مماثل لانعدام مؤشراته أصلا.

كنت في القاهرة 1991 ولاحظت حينها شبه إجماع بين النخب وحتى المواطنين العاديين حول خيار القيادة المصرية، ومرد ذلك أسباب كثيرة لعل أهمها هوالعدوان الفعلي على الكويت، يضاف إليه تضرر العمالة المصرية بشكل مباشر من تلكم التطورات، ما لامس طبقات الشعب، والفضاء الإعلامي المحدود حينها والتحكم فيه والتوجيه بيد النظام وحده؛ اليوم وفي حالة اليمن وقع العكس تقريبا، فالعدوان الفعلي والظاهر أمام الرأي العام هومن المملكة على اليمن، ولم يحدث من اليمن ما يضر بشكل مباشر الجالية العمالية المصرية، ليشعر الشعب  بالضرر أوحتى التعاطف، والإعلام بات مفتوحا ينقل بحرية كل الوقائع، بما فيها تلكم التي لا تريد القيادة المصرية عرضها. إذن القيادة المصرية إذا رأت بعين شعبها فهي أمام المشهد التالي: 1) السعودية بادرت بعدوان وحشي على اليمن؛ 2) ليس هناك جالية مصرية باليمن أوالسعودية تعرضت لما تعرضت له في الكويت عند احتلالها،3) مشاهد القتل التي لم تستثني كبيرا ولا صغيرا، والدمار والقصف الوحشي الذي كاد يأتي على كل البنية التحتية المدنية لليمن، تنقل هذه المشاهد الدموية المروعة لكل بيت مصري؛ ما نتج عن هذا كله انقسام في الرأي لدى النخب المصرية خلاف حالة الكويت، لنقرأ لكبار المفكرين والكتّاب، ونسمع حتى من قيادات عسكرية عليا، رأيا يدعوالقيادة المصرية لعدم الانجرار وراء مغامرات أنظمة الخليج، ويحذرها من مغبة الانسياق لنزعات شخصية، تفتلها غرائز لأهداف لا علاقة لها بالأمن القومي العربي ومنه المصري.

القيادة المصرية منذ شهر ونيف، لم تتهم الجزائر ولا العراق ولا سورية، بدعم الجماعات الإرهابية التي تستهدف عناصر جيشها في سيناء، وما أعلنه السيسي بلسانه حينها يبطن أسماء دول، هي بعينها التي تتحالف اليوم على قصف اليمن؛ وواحدة منها على الأقل تدعم الجماعة التي ارتكبت جريمة ذبح واحد وعشرين مصريا منذ شهرين فقط في ليبيا، وهذا يكفي لإعادة النظر سريعا في موقفها من التحالف الخليجي، ولمراجعة عميقة ومسؤولة لتداعيات هذا الوضع الخطير، في حالة انخراطها بشكل عملي في العدوان على اليمن؛ وإن لم يكن هذا سببا كافيا، فلا شك أن القيادة المصرية ترى ولا يمكنها أن تتعامى، عن كون الجيوش العربية القوية في المشرق العربي هي ثلاثة، العراقي والسوري والمصري، أما العراقي فقد تم تفكيكه بشكل نهائي، وأما السوري فقد أشغل بحرب ضروس طاحنة تنخر مقدراته، ولم يبقى سوى الجيش المصري، الذي يتم التحرش به داخليا بأيادي أجنبية ومنها العربية، وخارجيا هاهويستدرج لحرب مصنعة تصنيعا عربيا كذلك، يبدووكأنها مصيدة للجيش المصري خصيصا، متى وقع فيها يكون العدوقد حقق ضرب الجيوش الثلاثة التي أذاقته طعم الهزيمة ذات 1973. ويفسح له المجال للتمدد في المنطقة بداية من الإعلان الرسمي والعملي بأن القدس عاصمته، وليس انتهاء بضم الضفة     وتهجير الفلسطينيين إلى الوطن البديل، وهنا لا يمكن التعويل على الجيش السعودي الذي يفرك عضلاته على الشعب اليمني، لأنه ببساطة يستنجد بجيوش دول أخرى لحمايته من اليمنيين، فكيف لوواجهه العدوالإسرائيلي بترسانته وجبروته؟

ختاما، نرجوألا تكرر القيادة المصرية ذات المواقف التي تعكس اللهف وراء مليارات الدولارات كدعم وهمي، لا يزيد كما رأى الشعب المصري نفسه، عن كونه مجرد سراب بقيعة يظنه الظمآن ماء، وبدل الرهان على شبح الخيال هذا، والذي عادة لا يورد إلا للمهالك، لتراهن القيادة المصرية على شعبها الأصيل، فهوالثروة الحقيقية والقوة الفعلية التي يمكنها النهوض بمصر، وإن كان لابد من دعم فهناك محور عربي آخر جربته مصر، لا يمنّ ولا يقايض ولا يشهّر ولا يبتز، مازال قائما تحتل مصر منه مكانة الصدر وفلسطين مقام القلب، وأختم بالقول أن الخيار صعب لا محالة، لكن من المؤكد أن المضي في العدوان على اليمن يقينا سينتهي بضياع مصر كما ضاعت من قبل في نفس الوحل، وأما الخيار الثاني فاحتمالات النصر قائمة كما جربت كذلك مصر من قبل، وتعبر إلى بر الأمان كما عبرت من قبل….فهل تسمع مصر صوت العقل، أم تمضي وراء سراب بقيعة دول الخليج؟

Facebook Comments APPID

 
Top