بقلم / ناصر سالم المقرحي
لا يُذكر فن الكاريكاتير في ليبيا دون الإشارة إلى فنان الكاريكاتير الراحل محمد الزواوي الذي يعد رائداً لهذا الفن في ليبيا، ويُمثل في ذات الوقت قمة ما وصل إليه. محمد الزواوي برع في رسم التفاصيل الصغيرة أو تفاصيل التفاصيل كما يحلو للبعض تسميتها وبأسلوب ساخر وبحس تهكمي قل نظيره ليس على المستوى المحلي والعربي فحسب، بل على المستوى العالمي، فخطوط ورسومات وشخصيات الزواوي لا سيما تلك التي نجدها في البيئة الليبية يتعذر تقليدها ورسمها كما رسمها الفنان الذي امتلك مهارة فائقة ونحتَ لنفسه أسلوباً متميزاً لا يُشبه ما سبقه من أساليب فنية ساخرة شرقاً وغربا ً، ويستطيع المتلقي العادي والغير متخصص التعرف على لوحات الزواوي حتى وإن لم تكن موقعة بأسمه لتميزها وفرادتها، رغم وجود بعض الفنانين الليبيين الذين تأثروا بأسلوب الزواوي وحاولوا تقليده أو الوصول إلى ما وصل إليه فوضعوا رسومات وإن كانت تحمل الروح الليبية الخالصة وتخاطب الوجدان الليبي إلا أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه لوحات الزواوي لناحية الإتقان والمهارة، وهما الخاصيتين اللتين تمتع بهما الزواوي إلى جانب امتلاكه لثقافة عالية ومعرفة عميقة بالحياة والمحيط الذي يعيش فيه ويتفاعل مع أحداثه مكنتهُ من ألتقاط مفارقاته وتناقضاته وتحويلها إلى مادة ساخرة وناقدة للأوضاع الغير سوية.
ولوحات الزواوي - رغم أن البعض لا يعتبر الرسومات الكاريكاتيرية لوحات كونها تُعد للأستهلاك الصحفي في الأساس والذي يتسم بالسرعة والتجاوز - لوحات الزواوي لا تسخر ولا تنتقد ولا تُعري ولا تُشخص مواضع الخلل فقط، بل أنها قد تدفع بالمتلقي إلى الأبتسام وحتى الضحك احيانا والأندهاش.
رسومات الزواوي وطيلة خمسون عاماً أو يزيد، لامست هموم ومشاغل وقضايا الليبيين اليومية ورصدت من وجهة نظر فنية بحثة مواطن القصور والتخلف والجهل، وما من ليبي - بحسب ما أعتقد - لم تستوقفه رسومات الزواوي الغزيرة لا سيما فترة السبعينيات من القرن الماضي مع ازدهار الصحافة، حتى ممن لم يتحصلوا على قسط وافر من التعليم والدراسة لان الإحساس بأنها تمثله وتتبنى صوته لن يفارق المتلقي طالما أنه يتطلع إليها، أو أنها تمس قضايا محلية حساسة تستحوذ على اهتمامه، وبخطوطها البسيطة ومواضيعها القريبة منه وتخليها عن التعليقات واكتفائها بالإيحاء والتلميح أحياناً تجعل الغير متعلمين يتفاعلوا مع محتوياتها التي تلائم درجة وعيهم وإدراكهم وتستثير حس السخرية الكامن فيهم كونهُ أيضا وسيلة لتجاوز مختنقات الواقع وتخطي أزماته التي لا تخلو منها منطقة عربية.
يعطي الزواوي كل اهتمام للوحاته فلا يقدمها للمتلقي إلا وقد حمّلها عُصارة جهده وتفكيره ومهارته، يهتم الزواوي أيضاً بشخصياته الخارجة لتوها من عمق المجتمع الليبي البسيط الذي يتلمس طريقه نحو التقدم فيما تشده وتحد من تقدمه عوامل التخلف والجهل والاستبداد، ويتناول في رسوماته المختلفة اليومي قبل أن يمر ويصبح مجرد حدث عابر وذكرى فيسلط عليه الضوء ويخلدهُ بخطوطه القوية وألوانه المعبرة ولمساته الفنية الواثقة، والمتلقي المتفحص في رسومات الزواوي التي أنجزها ومن خلال تتبعها يستطيع الأقتراب أو الوقوف على أهم التحولات الأجتماعية والأقتصادية والسياسية والثقافية التي مرَ بها المجتمع الليبي فهي والحال كذلك تعد وثيقة يمكن الأعتماد عليها عند دراسة بنية المجتمع الليبي، فقد تناولت أعمال الزواوي الفنية كل شيء تقريباً ورصدت ريشته الكثير من الظواهر – في حدود الحرية الممنوحة له - فكما هو معلوماً عانى الليبيون بمختلف شرائحهم كثيراً في ظل حكم العقيد القذافي الذي تواصل لأثنان وأربعون عاماً، من سياسات تكميم الأفواه ومُصادرة الحريات والضغط على المبدعون وحتى استغلالهم لخدمة المشروع الأستبدادي، واصطدم الفنان محمد الزواوي كغيره من المثقفين الليبيين بالسلطة نتيجة تجاوز الخطوط المرسومة وتعرض بالتالي للأستجواب والمضايقة أكثر من مرة ولم تشفع له موهبته وبراعته وتفوقه في الرسم الكاريكاتيري وإمكانية استثماره كثروة وطنية عند النظام الذي اضطهده ماديا ومعنوياً.
ومن أسوأ تجليات هذا الأصطدام وتبياناً للعلاقة الغير متكافئة ما بين المبدع الملتزم والسلطة الغاشمة التي لا تنفك تستقطب المبدع بوسائلها المعهودة وتحاول تسخيره وإخضاعه لمتطلباتها، ما حكى عنهُ الكاتب الليبي أحمد ابراهيم الفقيه ذات مقال تأبيني توديعي لرفيقه عن محاولة السلطات الليبية استغلال الفنان محمد الزواوي ومكانته لتنفيذ عمل إرهابي يستهدف أجتماعاً لوزراء الخارجية العرب عندما كان مقر الجامعة العربية بتونس، أثناء إحدى زياراته لها، الأمر الذي سبّب له آلاماً نفسية وجسدية فادحة وكلّفهُ عامين من الأعتقال والأستجواب على تهمة لم يكن لهُ يد فيها وجرم ارتكبه دون علم، وهو ما جعله يحجم عن مغادرة البلاد والأعتذار عن تلبية العديد من دعوات المشاركة في المعارض الخارجية لاحقا، تحسباً لمثل هذه المفاجآت الغير سارة التي تتفنن السلطة في اختراعها دون أدنى شعور بوخز الضمير.
الزواوي المبدع الذي اختزلت لوحاته الكثير من المعاني وقالت أكثر مما يستطيع قوله الكلام وأغنت عن مئات الصفحات المكتوبة وواكبت تبدلات الحياة الأجتماعية والأقتصادية والثقافية والسياسية في ليبيا يُفصح عن بعض أسرار هذه المهنة التي تفرغ لها ومنحها كل ما يملك من وقت وجهد ومثابرة فيقول: تبدأ اللوحة بفكرة وهي تأتي بغير موعد من خلال حديث مع الأصدقاء مثلاً، حيثُ أُنصت إليهم ثم ياخذني الخيال فجأة وأستسلم للشرود وأكون عندها قد التقطت نقطة أو جزئية محددة من الحوار وأبدأ في تشكيلها ذهنياً لتكون لوحة وتظل مسيطرة على تفكيري لبعض الوقت الذي يمتد لأيام أحيانا حتى تتشكل في الذهن تماماً وتختمر، وحين أهُم برسم الفكرة تكون واضحة، وهنا يأتي دور الموهبة والخبرة وتلعب المهارة دوراً في تجسيد الفكرة وإحالتها إلى مُنجز مرئي جاهز للعرض على المتلقي.
وحول مواضيعه المُفضلة في الرسم تحدث الفنان عن ميله لرسم ورصد الظواهر الأجتماعية الخاطئة ببلاده نظرا لكثرتها ووضوحها بحسب تعبيره، ونفوره من رسم أو تناول الموضوعات السياسية - رغم أنهُ وضع لوحات كثيرة في هذا المجال - وشعوره بالضيق من هذا العمل الذي يأخذ منه وقتاً أطول مما يأخذه رسم الموضوعات الأخرى المُحببة إلى نفسه.
وتحدث الفنان عن حالة التماهي التي يدخل فيها أثناء الرسم والتقمص اللاإرادي للشخصيات المرسومة، حتى أنهُ قد يغضب أو يحزن أو يفرح ويضحك فقط لأن الشخصية التي يرسمها ويخلقها على الورق تفعل ذلك كما لو أنهُ يرسم نفسه حين يفكر في رسم الآخرين الذين تهمه قضاياهم وتستميله همومهم التي لا يُستبعد أن تكون همومه هو أيضاً.
ومن أسرار نجاح هذه التجربة الفنية الرائدة والمؤسسة لهذا النمط الفني في ليبيا إيمان صاحبها العميق والراسخ بما يفعل واعتباره لهذه الموهبة رسالة عليه أن يوصلها للآخر وواجب وطني مطالباً بالقيام به، ويكمن سر تفوق الزواوي كذلك في كونه لا يرسم عن سابق تأسيس، إذ لا يوجد نموذج جاهز يرسمه الفنان كما في بعض فروع الفن التشكيلي الواقعية، وهنا كان على الفنان أ ينحت أسلوبه الخاص ويجتهد في البحث عما يميزه ليحقق النجاح، وهو ما أفلح الزواوي في تحقيقه حتى أننا اليوم نستطيع وبأريحية تامة الحديث عن مدرسة في فن الكاريكاتير أسمها مدرسة محمد الزواوي.
الزواوي الذي ولد سنة 1936 بضواحي مدينة بنغازي، التقط ببصيرته النافذة مشاكل المجتمع الذي يعيش بين ضهرانيه وبعين الناقد والمُحلل تغلغل في أزماته المختلفة ومظاهر تخلفه فوضع رسومات مُعبرة وساخرة بأسلوبه المتميز، عن البطالة وغلاء المهور والعنوسة وسرقة المال العام وانعدام خدمات الدولة ببعض القرى والأحياء و ضعف البنية التحتية والقبلية والتعصب وتدهور الخدمات الصحية وتكدس القمامة والتعدي على البيئة والتبرك بالأضرحة والإسراف والتبذير وعذابات الغربة وقلة التعليم وتتبع بخطوطه الرشيقة الكثير من السلوكيات الخاطئة التي لا تنُم إلا عن جهل وتخلف من يأتيها بعد استقلال ليبيا في الوقت الذي كانت فيه البلاد تنفض عنها رداء التبعية والتخلف وكانت في حاجة لكل مجهود يصب في اتجاه تخطيها لهذه المرحلة، وفي كل ما رسم نلمح تلك المفارقة والفكرة والحبكة الطفيفة التي تمنح الرسم معناه وجدواه وتخرج به عن كونه مجرد رسم لا يحمل أية فكرة أو رسالة أو أنه مجرد استعراض لمهارات معينة.
ولكون لوحة الزواوي لوحة حقيقية ومُنجز فني متكامل بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لا يمكن النظر إليها كما يُنظر إلى ما تطالعنا به الكثير من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من رسومات كاريكاتيرية سرعان ما يتم نسيانها وتجاوزها على أساس أنها مادة ذات طابع استهلاكي مؤقت، على غرار المأكولات السريعة، بل انها ستظل صامدة عند محاكمتها فنياً لإمكانية قراءتها كأثر جمالي بمعزل عن سياقها التاريخي وموضوعها الآني.
ثمة خاصية أخيرة تتميز بها أعمال الزواوي وتتمثل في أنها توحي بالحركة على الرغم من سكونيتها وثباتها، إذ يعمد الزواوي بوضعه لتلك الخطوط واللمسات وتحريكه للهواء المحيط بالشخصيات الكاريكاتيرية ورسمها في حالة اندفاع وحركة قد تكونان عنيفتين، كلها مؤشرات تحيل إلى الحركة وإلى الحياة التي تدب في أجسادها. حتى أننا نكاد نتصور الشخصيات وهي تضج بالحياة والحركة قبل أن تتجمد في الشكل التي هي عليه عندما وقع نظرنا عليها.
لا أعرف كيفية إيصال فكرة أن اللوحة عند الزواوي تضج وتوحي بالحركة، غير أنني أدعوك أيها القارئ إلى تأمل الأعمال بغاية قراءتها وفقا لهذه الفكرة – أي فكرة الحركة - وبكل تأكيد ستخرج بتصور إن لم يكن مكتملا فإنه كافٍ لرسم حدود الفكرة على الأقل.
في الخامس من شهر يونيو2011 أنتقل الفنان محمد الزواوي إلى رحمة الله تعالى بمدينة طرابلس في وقت كانت فيه الثورة الليبية التي اندلعت ضد نظام القذافي في أوجّها، وفي ظل هيمنة احداثها المتلاحقة على وسائل الإعلام واستئثارها بنشرات الأخبار، رحل الفنان في صمت إلى حد أن الكثيرين لم يسمعوا برحيله إلا لاحقا عندما هدأت الأوضاع نسبياُ وركد غبار المعارك حتى حين.