...
مؤسف أن نكون في القرن الواحد والعشرين ومازلنا نرى البشر بعين الشكل والمظهر ، نعلّب ونعيد تصنيع سلوكيات جمّة نتوارثها بشكل يبعث للإختلال في معايير الحياة ، وفي عصر تفشت فيه الثورات العربية التي تطالب بسيادة الحريات مازال هناك من يقيدها بهاجس أكثر ما يمكننا القول عليه بأنه مرض لعين من شأنه ان يدمر كوكبة من جماليات الحياة دون ان يدري!
"انتي منقبة !" هي الجملة التي ترددت على مسامعي من البعض كوني فتاة منقبة في فترة تساقطت فيها الكثير من الرقع السوداء استجابة لنداءات الحرية ولعل أكثر ما وصلتني من تلك الفئة المثقفة والتي يُحسب لها ان تشيّد دول الحرية والمواطنة المتساوية ، فبات الأمر طبيعيا حد اني انتظرها من رموز النخبة في كل لقاء يجمع بيننا .. المشكلة ليست هنا ولكنها تكمن في كيفية إقناع مثقفا أن حجاب الرأس أو الوجه لا يغطي العقل ايضا ..انما هو مسألة اقتناع للبعض وجذرية للبعض الآخر فتحتاج للكثير من النقاشات والمعالجات لكي تُفكك طلاسمها ، وأن الحرية التي ينشدونها تتطلب متنفسا لتقبل الاخرين كيف ما بدت ملامحهم بشرط أن تبدأ حرياتهم حينما تنتهي تدخلاتهم في حريات الاخرين ..فكان الأمر بالنسبة لي أشبه بأن تدس افكارك الفضفاضة في مكان ضيق لن يقبل سوى بفرضيات واملاءات موجهة تحت اللامنطق والتعصب .
صديقتي المصرية اماني استثارت استغرابها رؤية صورتي الشخصية على صفحتي بالفيسبوك بالنقاب فبدأت معي حوارا اشبه ما يكون بمناظرة هادئة ومقنعة ، اماني شابة جميلة وراقية جدا وغير محجبة ..تحب الملابس القصيرة وان كانت تسبب لها المضايقات في الشارع المصري.. فاجئتني في البدء حينما تحدثت عن عزمها عيش تجربة النقاب لفترة شهرين فقط في بلاد قليلة فيها نسبة المنقبات (مصر) وعللت ذلك بأنها تريد مشاهدة الفرق الذي يدفع الكثيرين إلى اطلاق الفتاوى والأحكام نسبة إلى توجهه الديني والطائفي ، هي مسلمة وإن كان مظهرها العام لا يشيء لهذا ولكن معرفتي القريبة منها جعلتني لا أكترث لدينها وعرقها ومظهرها في حضرة روحها التي كانت تشع وئاما وسلام وانسانية .
اول سؤال على طاولة الحوار (ليه انتي منقبة) .. لم يأتِ نقابي بفرض اسرتي فكما يعلمه البعض أن والدي طليق الفكر وكانت اول رسائله لبناته الثلاث (لن افرض عليكن شيء حتى تقتنعن) ولعل هذا السبب الذي يقف وراء تمسك شقيقتي الكبرى بالحجاب حتى تزوجت ، ارتدت النقاب دون ملاية من احد حتى زوجها ، اما انا فأرتديته قبل دخولي الجامعة في خطوة اقرب ما تكون انها عشوائية وطائشة ولا تخضع لأي سبب سوى اني احببت تجربة ارتدائه كنوع من التغيير ، تعاقبت السنين واصطدمت بعد تخرجي من الجامعة ودخولي عالم الإعلام بالكثير من التساؤلات وكأن الإعلامية لن تكون كذلك وهي منقبة ! ، اضافة إلى هذا علاقتي الجميلة بالقلم العاطفي دفعت الكثير الى الاستغراب بكيف ان تكتب عن الحب من هي منقبة وهذا ما قرأته يوما على صفحتي من احد المعلقين ، والحقيقة ان اغلب من هاجموني بسبب نقابي كانو أول من يفرضه على آل بيته وهنا تكمن الكارثة ؛ أن ترسم خطوطا للآخرين وأنت أول من يطمسها بداخلك !
اماني لم تكن تعلم أن صديقتها المنقبة هي نفسها التي تكتب عن الحب وبشكل شجاع وجريء وتعاريج أقوية شبه ما تكون بصرخات في زمن مازال يذكر المرأة بأن صوتها عوره ، سألتها ما الذي تغير بعد معرفتها فكان جوابها مغموسا بالدهشة ايضا (لاشيء) سوى أنها تطارد فكرة كيف ان يكون النقاب هامشا في دروس الحياة لفتاة لا تعترف إلا بعقلها وقلبها ..انتظرت شرحا مفصلا من اماني عن تجربتها عن النقاب فسبقتني التوقعات يوما قائلة (تجربة حلوة لكنها لا تناسبني، تظل المبادئ والبيئة التي تربيت عليها اقوى من كل الإطراءات التي تقرع باب الحياة للدخول) ..لم تقس اماني تجربتها على مدى تقبل الاخرين لها ولكنها وزنتها بمعيار يقبع داخلها ..وهنا تكمن الحكاية فالنقاب وغيره من الظواهر الاجتماعية ينبغي ان لا يسوقها الجهل الطبقي الذي يعتليه العيب والحرام ولكن مجرد اعتلاءها ميزان حساسا في النفس البشرية يجعلها تقيس كل التأثيرات عليها فقط وهذا هو الحل ولن يكون يوما هناك مشكلة اسمها نقاب وحجاب .
"روزي" معلمة بريطانية في احد معاهد اللغة في العاصمة صنعاء ، التقيتها بالصدفة اثناء مرافقتي لشقيقتي..كانت ترتدي جلبابا اسود وقفاز لدرجة يستحيل فيها تمييز ملامحها حتى نظرات عيونها ، كدتُ ان اطلق ضحكة بداخلي وانا اشاهدها تتحدث من بعيد مع طلابها وكأن اقترابها منهم سيحدث انفجارا في المكان حتى قعدت بجانبي في مكتبها وبت اتجوّل بالنظر اليها وهي تخلع القفاز وتزيح عن وجهها النقاب .. تفاجئت من حديثها العربي المكسّر ومن بشاشة وجهها ورقي اسلوبها الذي لم اعتد عليه من الكثيرين في اطار العمل في اماكن مزدحمة وتضج بالأصوات الخشنة، ظننتها يمنية وصدمني انها اجنبية ذات جنسية بريطانية واسلمت قبل ثلاث سنوات بعد زواجها من شاب يمني يدير معهدا للغات في صنعاء وصدمني اكثر انها بجلباب يغطي بياضا يشرح القلب بمجرد ملامسة النظر فيه .. بفضول امرأة اغرقتها بالأسئلة الجائعة وجاء منها ما أشبع فضولي فكان منها في نهاية الحوار الا ان تعانقني قائلة (نشفتي ريقي ولكن هناك ما يستحق) .. لم اتوقع بتاتا ان هذه المرأة اسلمت وتزوجت بيمنيا وتحجبت بإقتناع تام خصوصا في خضم الظروف التي تستدعيها للتفكير مليا في كل هذا خاصة وان هناك من يحفر للإسلام خندقا يقذف فيه كل الاشياء السيئة تلفيقا ، كررتُ سؤالي لها مديدا(هل انتِ مرتاحة بالنقاب) وكررت اجابتها برقة وهدوء (نعم) ..اليس هذا بحد ذاته امرا يبعث الراحة في كون ان هناك من يقتنع بمبادئه التي تحفظ مكانته ولو في غير موطنه وملته !
انا لا اشجع على النقاب ولكني لن اقف ضده ، سأقف ضد من يربطه بالدين والأعراف والتقاليد وبمن سيضبط شرف النساء بخرقة سوداء قد تخُفي السوء بعينه وقد تُظهر الانسانية الحقة ..فلن يكون النقاب يوما معيارا للشرف ولن يكون نزعه رمزا للتحضر والمدنية، سأقف ضد من يدفع به النساء للعبودية ويُسقط عنهن الانسانية بإستغلالهن كسلع..
سيأتي يوما ما اقنع فيه بناتي وابنائي بضرورة احترام حريات الاخرين طالما وانها لن تمس حرياتنا بسوء ، سأمنحهم متنفسا لقراءة كل هذه الامور العالقة في منتصف الإدراك بعين ضمائرهم وراحة بالهم لا بعدسة كلام الناس والقيل والقال ، وعلى محمل المحبة سأهديهم اقلاما للزمن يكتبون فيها مبادئهم التي ترفع من شأنهم ولا تلوثها تحت اي سقف كان طائفي او عقائدي .
أما انا فما زلتُ اؤمن ان مبادئي في الحياة هي الأَولى واني بنقاب او بدون نقاب لن اكون الا انا .. ويوم سأفكر فيه بنزعه لن يكون الا بإقتناع اني سأكون مرتاحة بقراري .
مازلت امتلك صديقات يمنيات وعربيات منقبات ومحجبات وغير محجبات ولن احكم يوما على احداهن واسيء لها لمجرد انها نزعت نقابا او ارتدت حجابا ...
الكلمة الفصل ستكون للسلوك أولا واخيرا .
وسأحفظ لي ولملتي حقيقة ان المرأة المُسلمة جميلة ومرموقة ان حافظت على مبادئها الاسلامية بالحجاب الاسلامي دون وصاية لون او نفوذ قبيلة وبقناعتها فقط ، وسأترك للآخرين حرية اختيار ملابسهم طالما وانها لا تمس حرياتي بضرر .