GuidePedia


عن كثب/متابعات...

ألقى العدوان السعودي على اليمن الضوء مجدداً على مسألة عالقة في ثنايا تاريخ الصراعات الإقليمية في المنطقة خلال العقود الخمس الماضية، وهي مسألة التوافق الإسرائيلي-السعودي تجاه دعم قوات الملكيين بهدف استنزاف وإنهاك الجيش المصري، الذي كان يدعم الثوار الجمهوريين في اليمن، إبان ما عُرف بالحرب الأهلية اليمنية الأولى(1962)، فبعد إشارات مبعثرة هنا وهناك عن تعاون بين تل أبيب والرياض قد يكون الأول من نوعه بين العاصمتين في مراحل التطبيع بينهما، وعن دور إسرائيل في إضعاف الجيش المصري في اليمن الذي كان أحد عوامل هزيمة 1967، فيكشف باحث إسرائيلي للمرة الأولى عن مشاركة إسرائيل بجانب السعودية  والأردن وبريطانيا بنقل معدات وأسلحة ومقاتلين لدعم قوات الملكيين، وما تكشف مؤخراً من وثائق إسرائيلية يؤكد للمرة الأولى وبشكل رسمي ليس فقط تقاطع مصلحة تل أبيب مع مصلحة الرياض في استهداف مصر عبد الناصر في اليمن، ولكن أيضاً على العمق التاريخي لمراحل التقارب والتعاون بينهما حتى ولو كان ضد دولة عربية مثل مصر.

الدور الإسرائيلي في اليمن
قبل أيام نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقال لباحث في الجامعة العبرية في القدس يدعى “يوجيف ألباز” يسعى لنيل درجة الدكتوراه في تاريخ الصراعات الإقليمية، ويهتم ببحث تدخلات إسرائيل في الصراعات الإقليمية منذ نشأتها 1948 وحتى عام 1975. أستهل “ألباز” مقاله بالتطرق إلى كون اليمن ساحة هامة استفادت منها إسرائيل في صراعاتها الإقليمية منذ الستينيات، فالدولة المهمشة والتي تعد واحدة من أفقر دول العالم شكلت مسرح مواجهة إقليمية واسعة، ليس الأن فحسب في ظل العدوان السعودي الحالي، ولكن حتى قبل خمسين عام حيث غيرت احداث حرب اليمن الأولى (1962) ميزان القوى الإقليمية، وأدت -حسب قول الباحث- بشكل غير مباشر إلى حرب يونيو 1967.


ويكشف الباحث بحسب وثائق عسكرية أفرج عنها بمقتضى قانون الوثائق الإسرائيلي، أن تل أبيب تدخلت عسكرياً في الحرب الأهلية اليمنية الأولى بوازع أن أي إضعاف لقوة مصر يأتي في صالحها، وحيث أن مصر قد دعمت الجمهوريين بعد لجوءهم إلى عبد الناصر عقب فرار الإمام محمد بدر حميد الدين إلى السعودية وتكوينه جيش من القبائل بمساعدة وتمويل وتخطيط كل من بريطانيا والسعودية والأردن، فكان من مصلحة إسرائيل أن تدخل هذا التحالف ضد مصر عبد الناصر لاستنزاف قوة الجيش المصري هناك. وهنا يرى الباحث الإسرائيلي أن “ما وجد في الأرشيف يكشف عن تورط عسكري إسرائيلي في الحرب الأهلية اليمنية، هذا التورط يضعف ما يحلو لبعض المعلقين وصفه بصراع أثني تقليدي بين السُنة والشيعة، أو بين السعودية وإيران”.


ويتابع “ألباز” بالقول أن “المخاوف تركزت من انتشار الناصرية في كل الدول العربية، قرر الثلاثة (السعودية، الأردن، بريطانيا) دعم الإمام، السعودية والأردن دعمت الجيش الزيدي باللوجيستيات والتمويل، أما البريطانيون فلجئوا إلى مداراة غامضة الأسلوب في دعمهم، فتم تكليف المكتب السادس إم.آي.6 (الاستخبارات الخارجية البريطانية) بتكوين اتصال سري مع الملكيين، واستخدام شركة مرتزقة خاصة يملكها الكولونيل ديفيد سترلينج، الذي أنشاً القوات الخاصة البريطانية إس. إيه. إس، حتى تستطيع بريطانيا التنصل رسمياً من تهمة التدخل. جند سترلينج عشرات من خريجي وحدته، وأرسلوا إلى اليمن كمستشارين لقوات الإمام بدر. ساوى التدخل البريطاني ميزان القوى، الذي مال لصالح الثوار والمصريين في البداية، مصر عززت تواجدها العسكري هناك مرات عدة، وصلت عدد قواتها إلى نحو 60 ألف جندي أي ما يوازي ثلث الجيش المصري وقتها لحسم المعركة لكن بغير فائدة”.
  
وحول دوافع إسرائيل للتدخل إلى جانب السعودية والأردن في دعم الملكيين بالأسلحة والعتاد تطرق الباحث إلى معضلة الحصار البحري لقوات الملكيين الذي أتى في مطلع عام 1963، حيث اكتفت القوات المصرية بالتمركز في مواقعها جنوباً وتحصن الملكيين شمالا دون أي منفذ على البحر، مما صعب مهمة نقل الأسلحة والإمدادات إليهم إلا عن طريق الدروب الجبلية من السعودية، سواء عن طريق البر باستخدام الجمال، أو طائرات سلاح الجو السعودي الوليد، الذي عانى في ذلك الوقت من انشقاقات عديدة، حيث لجأ بعض الطيارون السعوديون إلى الى مصر بعد عصيانهم أوامر بنقل إمدادات للملكيين، واستقبلت المطارات المصرية عدداً من الطائرات السعودية التي كان من المفترض أن تنقل المعدات والأسلحة إلى الملكيين, وهنا ينقل الباحث أن السلطات البريطانية في ظل تعهد ساستها بشكل علني بعدم التدخل في اليمن وتخوف حلفاءها في الأردن من القيام بمهمة النقل الجوي للأسلحة الموجهة للملكيين في اليمن خشية اجراءات عقابية يشنها ضدهم عبد الناصر، لجأت بريطانيا إلى إسرائيل، التي حسب قول الباحث الإسرائيلي “كانت في تلك الوقت معزولة ومعرضة للتهديد من قِبل جيرانها، فسرعان ما وافقت على الطلب البريطاني، فالخوف الغريزي من وجود زعيم عربي يوحد الملايين ضدنا برز مجدداً(..) قررت إسرائيل الإضرار بمصر كلما سنحت لها الفرصة بذلك. في 1963 أتصل الكولونيل ماكنيل بالمحلق العسكري في السفارة الإسرائيلية بلندن، دان حيرام، وبحث معه مساعدة إسرائيل للإمام، نقل حيرام بدوره الطلب إلى تل أبيب، الذي أرسلت بعد أيام موشى ديان إلى لندن، الذي كان وقتها وزير للزراعة إلا أنه كان يمتلك نفوذ في المجال الأمني، بصحبته كام مائير عاميت رئيس الموساد، الاثنين أعطوا موافقة أولية، وفي خريف 1963 تبلورت خطة العملية التي سميت من جانب الجيش الإسرائيلي بعملية الصلصة ودخلت منذ ذاك التاريخ حيز التنفيذ”.
 حدد “ألباز” في مقاله تاريخ 31 مارس 1964 كتاريخ أول عملية إسرائيلية في اليمن لنقل أسلحة وذخائر ومعدات، حيث ذكر في مقاله أن في ذلك التاريخ “اخترقت طائرة نقل إسرائيلية سماء اليمن، قاد طاقمها بقيادة الطيار آريا عوز الطائرة نحو شمال اليمن، فوق معسكرات الجيش المصري، وبعد تلقيه إشارات ضوئية من الأسفل بدأ إنزال حاويات ضمت أسلحة وذخائر وإسعافات طبية. عزز ذلك الثقة بين الملكيين والإسرائيليين، فعلى مدى عامين تكررت العملية أكثر من 13 مرة، لكن في إطار من السرية القصوى، حتى أن عدد قليل من قيادة الملكيين وحدهم من عرفوا طائرات أي دولة التي تزودهم بالأسلحة، لم يتم أخبار السعوديين حتى بهوية حليفهم الجديد خوفاً من أن يتخلوا عن الإمام”.

هل سعت السعودية لحلف مع إسرائيل ضد مصر؟

 بخصوص السطر الأخير من المقتطف السابق، فأن تاجر السلاح السعودي الشهير عدنان خاشقجي أكد في شهادته أمام لجنة تحقيق في الكونجرس الأميركي عام 1987 بشأن ما عُرف وقتها بفضيحة “إيران جيت” أنه ألتقى بشيمون بيريز -كان يشغل منصب مساعد وزير الدفاع وقتها- في فرنسا عام 1963 لبحث طلب غير مباشر من رئيس الاستخبارات السعودية آنذاك، كمال أدهم -صهر الملك فيصل- بتعزيز إسرائيل لجسرها الجوي المنطلق من جيبوتي إلى شمال اليمن، بالتوازي مع سعي سعودي لتعزيز دور المرتزقة البريطانيين وغيرهم من جنسيات أخرى في الشأن نفسه بتمويل سعودي، وهو ما يناقض رأي “ألباز” بأن البريطانيين أخفوا عن السعوديين أمر اشتراك إسرائيل معهم في دعم الملكيين.
وفي السياق نفسه، يذكر الكاتب المصري، محمد حسنين هيكل، في كتابه “سنوات الغليان” أن إسرائيل تولت الشق العملي من تسليح ونقل المعدات إلى كل من المرتزقة الأجانب الممولين سعودياً وقوات الملكيين في جبال شمال اليمن، وسميت تلك العملية ب”مانجو”، وأمتدت التعاون بين الطرفين إلى نقل تل أبيب قوات خاصة من اليهود اليمنيين الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلة لتنفيذ عمليات خاصة في بيئة اعتادوا العيش والاندماج فيها.
وفي هذا السياق أيضاً، يؤكد أسعد أبو خليل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا على مسألة التعاون الإسرائيلي-السعودي المباشر ضد مصر عبد الناصر ودورها في اليمن، وما شهده من لقاءات مباشرة بين مسئولين من البلدين، وذلك في مقال له في صحيفة الأخبار اللبنانية، ويذكر أن النظام السعودي فتح علاقة مباشرة مع تل أبيب من أجل بحث دعم الملكيين ضد القوات المصرية والثوار، وهو ما لزم عقد لقاءات بين مسئولي الدولتين، أحدى جولات هذه اللقاءات تم في القنصلية الإسرائيلية في بومباي، حيث تردد الدبلوماسي السعودي أحمد القاضي على القنصلية مرات عدة، بأوامر من الملك فيصل-كان يشغل منصب ولي العهد آنذاك- في إطار بحث امداد الطائرات الإسرائيلية لقوات الملكيين بالأسلحة والذخائر، مقابل معلومات تقدمها السعودية والملكيين عن الجيش المصري وتسلحيه إلى إسرائيل، كما نقل أبو خليل تصريحات سفير إسرائيل السابق في بريطانيا، أهارون ريميز، حول لقاءاته وآخرين “بصورة مستمرة” مع قادة من السعودية والأردن، امتدت حتى ما بعد حرب 1967. واتساع مائدة الحوار بعد ذلك لتشمل مندوبين من وزارة الدفاع السعودية ومنظمة الاستخبارات والأمن القومي الإيرانية “سافاك” وجهاز الاستخبارات العسكري الإسرائيلي “أمان”.
ويتفق ما أورده أبو خليل عن استمرار التعاون بين الرياض وتل أبيب بعد انتهاء حرب اليمن الأولى مع ما ذكره “يوجيف ألباز” في نهاية مقاله المشار إليه أعلاه، حيث ذكر أنه حتى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين القوات المتحاربة و داعميهما -مصر والسعودية- فأن المرتزقة الأجانب الذين شاركوا في الحرب حاولوا الإبقاء على الجسر الجوي الإسرائيلي وذلك في مايو 1966، وطرح تدريب قوات الإمام على أراضي إيرانية بإشراف إسرائيلي أميركي وجس نبض الملك فيصل للتجاوب مع ذلك.

هل يكشف المستقبل تجدد التعاون؟

فيما استقبلت تل أبيب العدوان السعودي الحالي على اليمن بإيجابية لم تعد مثيرة للدهشة، بصفة أن السعودية تعمل من خلال عدوانها على مواجهة نفوذ إيران، حليفة الحوثيين وعدوة كل من الرياض وتل أبيب، وهي نقطة الالتقاء بين العاصمتين التي سارعت وتيرة التقارب بينهم الذي خرج من نطاق السرية والغرف المغلقة إلى العلن خلال السنوات الأربعة الماضية، على خلفية توافقهما ضد إيران ووحدة رؤيتهم لخطر البرنامج النووي الإيراني عليهم. لذا فأنه من العادي أن يزخر الإعلام إعلام هذه الأيام بتأييد العدوان السعودي على اليمن، سواء على أرضية مواجهة نفوذ إيران عدوها الرئيسي، أو كونه يدفع المنطقة إلى أتون صراع طائفي ومذهبي الرابح الوحيد منه هو تل أبيب.
ومثلما تكشفت بمرور السنوات دوراً رئيسياً لإسرائيل-الناشئة وقتها- في حرب اليمن الأولى وكيفية استثمارها لمواجهة مصر العدو الرئيسي لتحقيق هزيمة 1967،  فأنه من غير المستبعد أن ينكشف في المستقبل القريب عن دور للكيان الصهيوني في العدوان الحالي على اليمن، حيث تضاعفت قوة إسرائيل عن سابقها مرات، بموازاة تقدم كبير في علاقاتها مع السعودية، التي أتضح أنها استهلت بالتعاون ضد مصر في حرب اليمن الأولى..فماذا يمنع أن يتكرر هذا مجدداً بتبدل أدوار الحلفاء والأعداء بالنسبة للاثنين؟

 البديل

Facebook Comments APPID

 
Top