مازن الصعفاني
.................
كالراهب المتأمل في ما وراء الطبيعة، نظر إليّ قائلاً: أنت تعيش بلا وطنية.
حدّقت في تعابير وجه بحثاً عن هزلٍ قد يعتريها، وعندما لم أجد غير المبالغة في جدّيتهِ.. وقفت في مكاني بهلع متسائلاً: كيف يمكن أن أعيش بلا وطنية؟.. لا لا.. لا يمكنني ذلك، عليَّ الحصول حتى على البعض منها.. هكذا عقدت العزم في البحث عن الوطنية بأي ثمن.. دافعاً نفسي: كُلّه يهون إلا العيش بلا وطنية.
* * *
راجلاً على قدمي، انطلقتُ إلى سوق الملح، فكيف لا يمكن إيجاد شيئاً مثل الوطنية في سوق الملح.. إنه سوقنا الوطني الأصيل.. سوق كل ما هو جميل ومليح ، وما هي إلى لحظات حتى وصلت السوق.. يا إلهي.. هكذا صرخت بأندهاش عند مدخل السوق.. يبدوا أنه موسم الوطنية، فالسوق يكاد يغرق بأصنافها المختلفة ذات الأحجام المتعددة والمتنوعة.
لم أضيّع الوقت.. بدأت أسأل الباعة عن كل صنف بما يتميز وما هي فوائده.. فقد قررت أن لا اشتري إلا ما هو ذا فائدة عظيمة.. وأن لا أعود إلا وأنا مليئ بالوطنية.
عند إنتقالي من صنف لآخر، لفت نظري مُنتج لم يتبقى منه إلا القليل فاستنتجتُ حينها أنه الرائج هذه الأيام.. وعلى الفور سألت البائع عن هذا الصنف، فأخبرني أنه وارد صعدة.
صعدة.. آهااااه، إنها موطن العنب والرومان الصعدي الذي لا مثيل له، ومع ذلك فهي موطن القات الصعدي، وما اتعسني عندما أخزن بقات صعدي.
أردت التأكد من مميزات وفوائد المنتج الصعدي فسألت البائع عن ذلك، فأخبرني أن هذا المُنتج غني بالعديد من الفيتامينات على رأسها.. فيتامين «ثورة A» وفيتامين «ثورة B» وفيتامين «ما نُبالي A» لكنها خالي من فيتامين «ريوس. تلور».
- حسناً.. يبدوا حقاً جيد.. وهل يحتوي على فيتامين «ضوء C» وفيتامين «معيشة D»؟، سألت البائع.. فأجابني بأنه لا يحتوي على تلك الفيتامينات.
* * *
انتقلت إلى مُنتج آخر، فأنا لم آتي إلى سوق مثل سوق الملح لاشتري أول مُنتج اصادفه ثم أرحل.
وأثناء مروري بالباعة وجدت لوحة كتب عليها: مُنتج الزعيم.. هكذا كانت اللوحة مُعلقة فوق المُنتج.. فقد لفتت نظري إليها ويبدو أن هذا المُنتج أثار اهتمامي من اسمه فقط.
سألت البائع أن يخبرني عنه فاسترسل في شرحه بالقول أن هذا المُنتج له شعبية غير عادية، بل هو أكثرها جدلاً.. وهو يستحق ذلك لأنه مميز، حيث يحتوي على فيتامينات عديدة أذكر منها:
فيتامين «أمينة B».. وفيتامين «ريوس C» وفيتامين «سياسي A» بالإضافة إلى أنه يخلو من مادة «ديني D» المسببة لمرض الدهون الخارجية.
سألته بلهفة إن كان يحتوي على فيتامين «ضوء C» وفيتامين «معيشة D»، فأشار لي برأسه نافياً.. مما أصابني بخيبة الأمل.
* * *
بينما كُنت اتنقل بين أصناف المُنتجات الوطنية، لفت نظري أحد الباعة المتجولين، حيث كان يتسمّر في كل زاوية من المحل الذي أقصده مسترقاً السمع في حديثي مع الباعة، لكني لم أعر الأمر أي أهمية.. وفيما كُنت أهُمّ بمغادرة أحد المحلات بدأ ذاك البائع بالتحرك، فما إن خرجت من المحل حتى أتى إليَّ وهو يتلفت يميناً ويساراً، وكأنه تاجر ممنوعات، قال لي: هل تريد صنفاً يقلب الدماغ ويخليك زي الفل؟
قلت له: أنا أبحث عن الوطنية.
قال: طبعاً طبعاً.. هو مُنتج بأيدي وطنية يُصنع في سوق عُكاظ ثم يورّد إلينا.
- يبدوا الأمر مُريباً.. هكذا حدّثتُ نفسي.. تركته على الفور وغادرت سوق الملح باتجاه المنزل، وأنا اتمتم: اللعنة يبدو أنيّ التقيتُ بتاجر ممنوعات.. وحتى إن افترضنا أني أريد التحشيش فلا أريده إلا صناعة محلية.. فلا يمكنني قبول أي شيء يأتي من الخارج ولو كان حشيش.
* * *
في طريق العودة إلى المنزل، أوقفت أحد التكاسي، فلم يعد باستطاعتي المشي من فرط إحباطي.. صعدت إلى السيارة فوجدت السائق رجل كبير في السن.. لاحظت مُنذُ صعودي أنه ينظُر إليّ وكأنه يأسى لحالي، ففكرت أن ملامحي توحي بالشفقة.
في الطريق بعد أن قطعنا بعض المسافة نظر إليّ من المرآة وقال: لماذا يا ابني ترمي نفسك إلى التهلكة وأنت في مقتبل العمر؟
اندهشت من سؤاله، وقلت له: لم أفهم ما تقصد!!.
قال: أنت شاب في بداية عمرك وعاد المستقبل قدامك، وأنت تعرف أن الإدمان هو إنتحار بطيئ.
زاد استغرابي وعجبي من كلامه.. فسألته بامتعاض: أيش من إدمان أو ابسرتني اشرب حشيش؟
قال: كان وما دخلتك سوق الأفيون؟
قلت له: سوق أيش؟.. يا حاج هذا سوق الملح.. مالك أول مرة تعرفه؟
قال: لا لا.. هذا سوق الأفيون، الظاهر إنك ربشت في الأسواق، فسوق الملح يقطن في صنعاء القديمة.. على العموم أنا فكرت إنك مدمن.. لكن الحمدلله.. الله يحفظ شبابكم للوطن.
* * *
في الليل ذهبتُ إلى السرير وأنا مصاب بحالة إرباك كبيرة.. فلم أعد أعرف ما الذي يجري.
وضعتُ رأسي على الوسادة، لتتزاحم أحداث اليوم الفائت أمامي وكأني أعدت تشغيل شريط مسجّل.. واستمررت في سهوي هكذا حتى تملّكني النعاس.
ما هي إلا لحظات حتى افقت على صوت إنفجار عنيف.. كان نتيجة قصف إحدى الطائرات السعودية على جبل نُقم المواجهه للمنزل.
فجأة اتضحت لي الصورة كاملة.. لم أفهم لماذا فهمتُ الأمر فجأة وفي تلك اللحظة؟ هل هو نتيجة ذاك الضوء الغريب الذي هبط من السماء، يبدو أنه ضوء الحقيقة، أو ربما ذاك الضوء نتيجة الصاروخ الذي استقبله جبل نُقم بصدره كلاعب محترف ينافس كلٍ من رونالدو وميسي.
كانت الحقيقة هي ما عرفتها بعد ذاك الضوء.. وهذا هو المهم.. تكشّف لي أني لم أذهب إلى سوق الملح كما اعتقدت، بل كنت في سوق أكثر إثارةً وجدلاً ووهماً، إنه سوق الأفيون الوطني.
* * *
هذه هي الصورة إذاً.. هناك حرب لا هوادة فيها، فكل طرف يحاول بيع مُنتجة لنا من الوطنية.. في الوقت الذي نعتقد فيه أننا بلا وطنية، نذهب للبحث عنها في سوق أفيونهم الوطني.. ليس جميعنا.. فهناك من يكتشف أن صبره على العيش بلا كهرباء ولا ماء ولا أمن ولا حتى وطن.. تحت القصف وتحت النار هي أعظم مراتب الوطنية التي يُمكن أن يصل إليها شخصاً ما.. والبعض الآخر يفشل في اكتشاف ذلك، فيشتري أحد منتجات الوطنية من سوق الوطنية ليشعر بنشوة وسعادة وهمية كمدمني الأفيون.
كالراهب المتأمل في ما وراء الطبيعة، نظر إليّ قائلاً: أنت تعيش بلا وطنية.
حدّقت في تعابير وجه بحثاً عن هزلٍ قد يعتريها، وعندما لم أجد غير المبالغة في جدّيتهِ.. وقفت في مكاني بهلع متسائلاً: كيف يمكن أن أعيش بلا وطنية؟.. لا لا.. لا يمكنني ذلك، عليَّ الحصول حتى على البعض منها.. هكذا عقدت العزم في البحث عن الوطنية بأي ثمن.. دافعاً نفسي: كُلّه يهون إلا العيش بلا وطنية.
* * *
راجلاً على قدمي، انطلقتُ إلى سوق الملح، فكيف لا يمكن إيجاد شيئاً مثل الوطنية في سوق الملح.. إنه سوقنا الوطني الأصيل.. سوق كل ما هو جميل ومليح ، وما هي إلى لحظات حتى وصلت السوق.. يا إلهي.. هكذا صرخت بأندهاش عند مدخل السوق.. يبدوا أنه موسم الوطنية، فالسوق يكاد يغرق بأصنافها المختلفة ذات الأحجام المتعددة والمتنوعة.
لم أضيّع الوقت.. بدأت أسأل الباعة عن كل صنف بما يتميز وما هي فوائده.. فقد قررت أن لا اشتري إلا ما هو ذا فائدة عظيمة.. وأن لا أعود إلا وأنا مليئ بالوطنية.
عند إنتقالي من صنف لآخر، لفت نظري مُنتج لم يتبقى منه إلا القليل فاستنتجتُ حينها أنه الرائج هذه الأيام.. وعلى الفور سألت البائع عن هذا الصنف، فأخبرني أنه وارد صعدة.
صعدة.. آهااااه، إنها موطن العنب والرومان الصعدي الذي لا مثيل له، ومع ذلك فهي موطن القات الصعدي، وما اتعسني عندما أخزن بقات صعدي.
أردت التأكد من مميزات وفوائد المنتج الصعدي فسألت البائع عن ذلك، فأخبرني أن هذا المُنتج غني بالعديد من الفيتامينات على رأسها.. فيتامين «ثورة A» وفيتامين «ثورة B» وفيتامين «ما نُبالي A» لكنها خالي من فيتامين «ريوس. تلور».
- حسناً.. يبدوا حقاً جيد.. وهل يحتوي على فيتامين «ضوء C» وفيتامين «معيشة D»؟، سألت البائع.. فأجابني بأنه لا يحتوي على تلك الفيتامينات.
* * *
انتقلت إلى مُنتج آخر، فأنا لم آتي إلى سوق مثل سوق الملح لاشتري أول مُنتج اصادفه ثم أرحل.
وأثناء مروري بالباعة وجدت لوحة كتب عليها: مُنتج الزعيم.. هكذا كانت اللوحة مُعلقة فوق المُنتج.. فقد لفتت نظري إليها ويبدو أن هذا المُنتج أثار اهتمامي من اسمه فقط.
سألت البائع أن يخبرني عنه فاسترسل في شرحه بالقول أن هذا المُنتج له شعبية غير عادية، بل هو أكثرها جدلاً.. وهو يستحق ذلك لأنه مميز، حيث يحتوي على فيتامينات عديدة أذكر منها:
فيتامين «أمينة B».. وفيتامين «ريوس C» وفيتامين «سياسي A» بالإضافة إلى أنه يخلو من مادة «ديني D» المسببة لمرض الدهون الخارجية.
سألته بلهفة إن كان يحتوي على فيتامين «ضوء C» وفيتامين «معيشة D»، فأشار لي برأسه نافياً.. مما أصابني بخيبة الأمل.
* * *
بينما كُنت اتنقل بين أصناف المُنتجات الوطنية، لفت نظري أحد الباعة المتجولين، حيث كان يتسمّر في كل زاوية من المحل الذي أقصده مسترقاً السمع في حديثي مع الباعة، لكني لم أعر الأمر أي أهمية.. وفيما كُنت أهُمّ بمغادرة أحد المحلات بدأ ذاك البائع بالتحرك، فما إن خرجت من المحل حتى أتى إليَّ وهو يتلفت يميناً ويساراً، وكأنه تاجر ممنوعات، قال لي: هل تريد صنفاً يقلب الدماغ ويخليك زي الفل؟
قلت له: أنا أبحث عن الوطنية.
قال: طبعاً طبعاً.. هو مُنتج بأيدي وطنية يُصنع في سوق عُكاظ ثم يورّد إلينا.
- يبدوا الأمر مُريباً.. هكذا حدّثتُ نفسي.. تركته على الفور وغادرت سوق الملح باتجاه المنزل، وأنا اتمتم: اللعنة يبدو أنيّ التقيتُ بتاجر ممنوعات.. وحتى إن افترضنا أني أريد التحشيش فلا أريده إلا صناعة محلية.. فلا يمكنني قبول أي شيء يأتي من الخارج ولو كان حشيش.
* * *
في طريق العودة إلى المنزل، أوقفت أحد التكاسي، فلم يعد باستطاعتي المشي من فرط إحباطي.. صعدت إلى السيارة فوجدت السائق رجل كبير في السن.. لاحظت مُنذُ صعودي أنه ينظُر إليّ وكأنه يأسى لحالي، ففكرت أن ملامحي توحي بالشفقة.
في الطريق بعد أن قطعنا بعض المسافة نظر إليّ من المرآة وقال: لماذا يا ابني ترمي نفسك إلى التهلكة وأنت في مقتبل العمر؟
اندهشت من سؤاله، وقلت له: لم أفهم ما تقصد!!.
قال: أنت شاب في بداية عمرك وعاد المستقبل قدامك، وأنت تعرف أن الإدمان هو إنتحار بطيئ.
زاد استغرابي وعجبي من كلامه.. فسألته بامتعاض: أيش من إدمان أو ابسرتني اشرب حشيش؟
قال: كان وما دخلتك سوق الأفيون؟
قلت له: سوق أيش؟.. يا حاج هذا سوق الملح.. مالك أول مرة تعرفه؟
قال: لا لا.. هذا سوق الأفيون، الظاهر إنك ربشت في الأسواق، فسوق الملح يقطن في صنعاء القديمة.. على العموم أنا فكرت إنك مدمن.. لكن الحمدلله.. الله يحفظ شبابكم للوطن.
* * *
في الليل ذهبتُ إلى السرير وأنا مصاب بحالة إرباك كبيرة.. فلم أعد أعرف ما الذي يجري.
وضعتُ رأسي على الوسادة، لتتزاحم أحداث اليوم الفائت أمامي وكأني أعدت تشغيل شريط مسجّل.. واستمررت في سهوي هكذا حتى تملّكني النعاس.
ما هي إلا لحظات حتى افقت على صوت إنفجار عنيف.. كان نتيجة قصف إحدى الطائرات السعودية على جبل نُقم المواجهه للمنزل.
فجأة اتضحت لي الصورة كاملة.. لم أفهم لماذا فهمتُ الأمر فجأة وفي تلك اللحظة؟ هل هو نتيجة ذاك الضوء الغريب الذي هبط من السماء، يبدو أنه ضوء الحقيقة، أو ربما ذاك الضوء نتيجة الصاروخ الذي استقبله جبل نُقم بصدره كلاعب محترف ينافس كلٍ من رونالدو وميسي.
كانت الحقيقة هي ما عرفتها بعد ذاك الضوء.. وهذا هو المهم.. تكشّف لي أني لم أذهب إلى سوق الملح كما اعتقدت، بل كنت في سوق أكثر إثارةً وجدلاً ووهماً، إنه سوق الأفيون الوطني.
* * *
هذه هي الصورة إذاً.. هناك حرب لا هوادة فيها، فكل طرف يحاول بيع مُنتجة لنا من الوطنية.. في الوقت الذي نعتقد فيه أننا بلا وطنية، نذهب للبحث عنها في سوق أفيونهم الوطني.. ليس جميعنا.. فهناك من يكتشف أن صبره على العيش بلا كهرباء ولا ماء ولا أمن ولا حتى وطن.. تحت القصف وتحت النار هي أعظم مراتب الوطنية التي يُمكن أن يصل إليها شخصاً ما.. والبعض الآخر يفشل في اكتشاف ذلك، فيشتري أحد منتجات الوطنية من سوق الوطنية ليشعر بنشوة وسعادة وهمية كمدمني الأفيون.