...
حدث تواصل بين الروائى الروسى والفيلسوف ليو تولستوى والإمام محمد عبده، مفتى الديار المصرية. كانت سمعة المفتى، كرجل دين متسامح ومستنير، بلغت مسامع تولستوى، وكان المسلمون الروس يبعثون إلى المفتى يستفتونه فى بعض أمورهم، وبعث تولستوى برسالة إلى المفتى الشيخ محمد عبده. الرسالة فيها إشادة بنبى الإسلام سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، لكن فى الرسالة ما يشى بوضوح إلى أن تولستوى ممن يرون أن القرآن الكريم ليس وحياً ولكن من وضع النبى، وكان لديه سؤال إلى المفتى حول موقف الإسلام والمسلمين من البهائيين، وهل ينظر إليهم كمرتدين وهل يقتلون؟ كان مبعث سؤال تولستوى أن عدداً من مسلمى روسيا وإيران تحولوا إلى البهائية، وكثر الحديث عن ارتدادهم وقتل بعضهم فى إيران.
احتفى الشيخ محمد عبده بالرسالة، وتوقف عند الجزء الإيجابى منها، والذى يشيد بالنبى، وتواصل معه، وراح يبنى عليها ويعمق هذا الجانب، وحدث أن بعض المتحمسين هنا والذين يكونون ثقافتهم وأفكارهم بالسماع، راحوا يتحدثون عن أن تولستوى اعتنق الإسلام، وبغض النظر عن ذلك الاستنتاج المتعجل، فقد كانت صورة النبى إيجابية، وهكذا فى كثير من الدراسات، الفيلسوف الفرنسى «مونتسكيو» فى كتابه «روح الشرائع» تحدث بإيجابية عن النبى، واعتبره نموذجاً فى بناء المواطنة وعدم التمييز بين البشر، واستلفت مونتسكيو إصرار الرسول، صلى الله عليه وسلم، على أن لا فضل لعربى على أعجمى، ولا فضل لأبيض على أسود، إلا بالعمل الصالح، ومن بعده جاء كثر يشيدون ويشيدون بالنبى، بل إن إحدى المحاكم الأمريكية وضعت فى نهاية القرن التاسع عشر أمامها عدة تماثيل لرموز العدالة الإنسانية، وكان بين هذه التماثيل تمثال لنبى الإسلام، ولما عرف بعض المسلمين بذلك طالبوا المحكمة بأنهم لا يحبون أن يكون للنبى تمثال منحوت، وحدث أن استجابت المحكمة ورفعت التمثال، هكذا كان الحال عندنا وعندهم، بيننا وبينهم، فما الذى تغير؟
حدث التغير عندنا، حيث ظهر من بيننا فئة بنيت على الكراهية والحقد تجاه المغاير والمختلف، ومن ثم غادرت روح الإسلام حتى وإن تشدق أفراد هذه الفئة بأنهم وحدهم المسلمون، وبدلاً من أن يخاطبوا الآخر والمختلف بالحكمة والموعظة الحسنة، وبدلاً من أن يدفعوا السيئة بالحسنة، راحوا يهددون ويتوعدون، ثم أخذوا يقتلون ويفجرون فى القتل، وبعد أن كان عنوان الإسلام الشيخ محمد عبده والفيلسوف الشاعر محمد إقبال، وقبلهما الأمير عبدالقادر الجزائرى وبعدهما المجاهد عمر المختار، صار عنوان الإسلام بهاليل حسن البنا وسيد قطب وبن لادن والبغدادى، فكان أن أساء هؤلاء إلى الإسلام وإلى نبى الإسلام، ذلك أن هؤلاء القتلة قدموا أنفسهم إلى العالم باعتبارهم المدافعين عن الإسلام والمعبرين عنه والمتأسين بالنبى، فى زمن الكفاح ضد الاستعمار كان مفكرو الغرب يتحدثون عن الإسلام المكافح وإسلام الحرية والتحرر، ثم جاء الإرهابيون ليقلبوا الصورة.
قبل عدة شهور عقد مؤتمر علمى فى روما حول الدراسات المسيحية والقبطية، وألقت باحثة أمريكية بحثها العلمى الذى اعتمدت فيه على وثيقة قبطية قديمة، عثر عليها فى الفيوم، وتتحدث الوثيقة عن أن السيد المسيح كانت لديه زوجة، وبالتالى لم يكن أعزب، وهذا الاستنتاج يهدم الكثير من التصورات والأفكار، بل العقائد المسيحية، وكان التعليق الذى صدر عن المؤتمر أن الوثيقة التى اعتمدت عليها الباحثة «على الأغلب صحيحة»، ومع ذلك لم نجد من يشكك فى هذه الباحثة ولا يهدر دمها، ولا يتهمها بازدراء السيد المسيح ولا ولا.. ومضى الأمر، وقد سألت مسيحياً مصرياً متديناً عن رأيه فى ذلك البحث، فقال بالحرف: «هذا الكلام قيل من قبل، وهناك من يعتقد فى صحته، لكن لدينا ردود على ذلك».
لو أننا سنتعقب كل من يرى فى نبى الإسلام رأياً لا يروقنا، فهذا يعنى ألا تنتهى صراعاتنا مع الآخرين، الغريب أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى حياته لم يعاتب أحداً أساء إليه، خصومه فى مكة اتهموه بالكثير والكثير، ولم يعاتب ولا أمر بقتل أحد منهم، اكتفى بأن حاججهم بالكلمة الطيبة والمنطق السليم، وحدث أن بعضاً من المنتسبين إلى الإسلام طعنوه فى شرفه وفى عرضه، على النحو المعروف فى «حادث الإفك»، وتألم صلى الله عليه وسلم فى صمت، وتألمت أم المؤمنين، لكنه لم يعاقب أحداً، ناهيك عن أن يأمر بالقتل والغيلة.. بعد ذلك كله من الذى يسىء إلى النبى محمد، عليه أزكى الصلاة، ومن الذى يزدرى الإسلام؟ اللهم لا تؤاخذنا بأولئك الإرهابيين، وعلينا أن نخاطب العالم كى يدرى أننا، كما قال الرئيس الفرنسى هولاند، أول المضارين بما يقومون به من إرهاب .