فارس العليي
.........
اكتب من منزل متواضع يواجهه على بعد 30 متر فله فخمه ، مسوره وفي اعلى السور تم تثبيت ساتر من الصفيح المقوى، بأرتفاع يذكرنا بوجود فصل بين عالمين أثنين او أكثر، و يضمن أي إمكانية إطالة النظر من ناحيتنا الفقيرة، تجاه عالم -الفله- يعيش فيها افراد وفق أنظمة تكنولوجية إحترافية ، تتحكم في حركتهم وتنظم علاقاتهم الأجتماعية والثقافية والاقتصادية.
عالم يقيم علاقات وتواصل بما يمنح وصف العالمية ، مقدار من الارتباط الفاعل للحداثة ، بل وما قد يتجاوز مابعد بعد الحداثة ، تمنى صاحب البقالة في ناحيتنا الأقل من متوسطة الدخل، أن يمر أحد سكان الفله ويشتري كمية من حفاظات الأطفال والنساء ، واللاتي لم تعد نسائنا يشترينها نتيجة التدهور الكبير في الدخل الشهري .كلما هو موجود في الفله من أنظمة تكنولوجيا، وثقافية ،وعلاقات اجتماعية التي يمارسها سكان الفله ،لا تمد لواقع جهتنا المحلية بصلة على الإطلاق، بأستثناء شبكة المياه والصرف الصحي المهترئة، و التيار الكهربائي الذي كنا نتشاركه قبل أن ينقطع عن البلد كاملة ، بقينا نحن في ظلام وليتنا استمتعنا بالهدوء، الذي يكسره صوت مولد كهربائي تابع للفله والذي بنيت له غرفة جوار منازلنا المتواضعة، يثير ضوضاء وضجيجين ويعكر اوكسجيننا دخان الديزل المتصاعد منه، الفلة التي دخلتها ذات يوم رفقة أحد الأصدقاء المقرب منهم ، واسعة لدرجة ان فيها ملعب كرة قدم صغير ، و آخر للتنس الأرضي وكرة السلة ومسبح ، ومكان للجلوس الجماعي وبأمكان آخرين الجلوس في مقاعد زوجية موزعة في اكثر من مكان حول الفلة ، وصالة ﻷلعاب الطاوﻻت وعقد الصفقات ، حمادة، أحد الابناء وهو في نفس عمري تقريبا ، سألني بعد ان قدمني له صديقي عدة أسئلة ، ﻻيوجد بينها سؤال واحد ارتبط بحياة ناحيتنا المحلية ذات الدخل المحدود، كل الاشياء الموجودة في الفله تثير الأسئلة والدهشه معا ، وحالة من الاغتراب وكثيرا ما تشعر بأميه كبيرة لعدم تعرفك على بعض الأجهزة، و وظائفها و خصائص وطريقة استخدامها ، كنت انتوي تقديم بعض الاستفسارات حولها لحمادة هذا، لكن بعد أن وجه لي بعض الأسئلة تراجعت عن تعريض نفسي للسخرية أكثر مما بدوت عليها نتيجة عجزي عن الاجابات، دخلت الحمام و عز علي ان اوسخه .. تعجبني النظافة ويعجبني امتلاك تلك الأجهزة الهامة لحياتنا - شعرت حينها بأهمية امتلاكها - لكن يجب ان نكون على مستوى ﻻ يخلق امتلاكها احداث قطيعة مع مجتمعنا ذو الدخل المحدود، وأن ﻻ يخلق هذا المستوى ترتيب فئوي وهرمي ، بدى لي من تلك الجلسة الطويلة التي تعدت 12 ساعة ، أن الوقت داخل تلك الفله ليس الوقت الذي يبدوا لنا في ناحيتنا ، من خلال ممارساتنا للحياة، سواء داخل او خارج منازلنا التي ﻻ يتعدى اكبرها الغرف الأربع، وكذا بدت لي عاداتهم الاجتماعية مختلفة تماما عما نفعله ، مثال: طريقة استقبالنا الحميم للضيوف، والمواضيع التي نتداولها والتي لا تخلوا دائما من تنهدات وحلم توفير لقمة العيش، أحب حياة الرفاه والسفر وثقافة الاستقبال الدولي للوصول، وقيادة سيارة مرسيدس بتقنيات فخمه..الخ ، لكن تبقى هذه الطموحات مرتبطة بتشارك طريقة عيش عامة ، يشاركني فيها اغلبية ابناء المجتمع ان لم يكن ممكن للجميع ، كي نتبادل من التناغم التلقائي شكل حقيقي للحياة، و للواقع ، دون الحاجة للبحث المتعمد لتهيئة ثقافية واجتماعية مقصودة، في الأمكنة التي ننتقل اليها وذلك النوع من الشعور القسري، او حالة انفصام ، حينها لن نحتاج للجدران العازلة والشائكة المثبته على الاسوار المحيطة بمنازلنا، ثم من قال أننا بحاجة للأسوار ! انها توحي بممارسة عنصرية ، و تحفز تعدد المواطنات التي تسعى الحداثة للقضاء عليها حسب ادعائها ، وتزيد من الشكل الهرمي للفئات الاجتماعية، المضحك كثيرا في زيارتي تلك ، درجة التفاوت الثقافي ومجمل المحصلة المعرفية الثريه ، و"حداثة" الفكر والأدب والشعر والفنون والفلسفات ، والتي كنت أعبر عنها بتجاوز كبير ، مقارنة بالمحصلة التقليدية والمحدودة للكائن المسمى حمادة، ماجعلني اشتاق للامكنة التي كنت انزوي فيها للقراءة ، ومبادلة شغف المعرفة والاطلاع، اماكن بسيطة ولا تكترث لها عيون هؤﻻء كلما مروا عليها او بالقرب منها ، نواحينا الفقيرة تنجب أنسان ، وأن كان عدد كبير منهم يقعوا ضحية التطرف الأيديولوجي والجنون، والأمراض العصابية والذهانية ، وان كان ايضا لديهم في نواحيهم " الحداثية الرأسمالية" نفس الأمراض وأكثر قليلا من الأمراض العصرية، وهم نادرا ما ينجزوا أنسان يحدث فارقا في التاريخ الانساني ، وهذا يحدث ﻷن ظروفنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في عموم الوطن مختلفة عن حمادة وأمثاله الرأسماليين وكذا اكثر اختلافا مع الحداثة الغربية، التي تعتبر نتاج تحول تاريخي منطقي وطبيعي .
هذه ببساطة حكاية من الذاكرة سردتها لكم ، على خلفية احتدام نفسي جدلي تبادر الى ذهني وانا أقراء كتابا، حول امكانية التحول الديمقراطي والانتقال للحداثة ،وما بعد الحداثة ، و ملائمتها مع حالة مجتمعاتنا العربية.
امام المجتمع العربي عموما والمثقف خصوصا، الكثير لتجاوز حالة الانكسار والقمع ،والشرخ الذي يتسع كلما شعرنا بالهزيمة ،وتجاهلنا الذات العربية وخصائص اختلافنا عن الآخرين ، والأدوات التي تحقق ذلك الانتقال المناسب.