جميل مفرح
................
خمسة وعشرون عاماً انقضت .. نعم .. منذ تحقيق ذلك الإنجاز التاريخي الذي ظل لعقود طويلة من الزمن يمثل حلماً أولاً وغاية كبرى لأبناء اليمن شماله وجنوبه .. حلمٌ كانت الجماهير اليمنية لا تغفل عن إيقاد جذوته في مناسبة وغير مناسبة، ليظل متقداً متوهجاً، مستعداً وقابلاً للتحقق، رغم كل الصعوبات والعراقيل التي كانت تعترض مساره طوال تلك العقود .. كان الإنسان اليمني ما إن يُسأل عن أحلامه وأمنياته، حتى يبادر باستجلاب ذلك الحلم المثالي قبل أن تخطر على باله أية أحلام أو أمنيات شخصية أو خاصة، في مثاليةٍ كانت وما تزال لا تليق بسوى الإنسان اليمني الذي طالما ودام ما يعرف بتميزه في انتمائه وارتباط كيانه بهويته سواءً في دائرة تجذره وانتمائه إلى الجنسية اليمنية العريقة، أو في المستويات الأكثر اتساعاً من ذلك كديمومة اعتزازه وتمسكه بقوميته العربية والإسلامية، ثم اعتزازه الدائم بكون تربته أو خامته الأساسية تعد مرجعية ومآلاً للكيان العربي، خصوصاً حين يملي التاريخ التكويني للإنسان العربي إفاداته بكون اليمن هي الجذر الذي نبتت وتفرعت منه كافة سلالات الإنسان العربي، وحد الإيمان بالمقولة التي تفيد بأن من لم يكن يمني النسب فليس بعربي.
نعم .. ربع قرن من الزمن منذ تحقق حلم استعادة اللحمة اليمنية عبر إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م .. ذلك اليوم الذي أشرقت بتحققه شمس تاريخ جديد ليمن جديد، استقطب أنظار واهتمام العالم أجمع، بكونه يحصد منجزاً كبيراً يتمثل في توحيد الأرض والإنسان، في زمن لم يعد لم الشمل والتوحد بين البشر من سماته، رزمن أهم ملامحه وصفاته كونه زمن شتات وفرقة حتى بين الشقيق وشقيقه .. منجز توقف عنده العالم منبهراً ومعجباً ثم مشجعاً لهذه التجربة الوحدوية النادرة والمتميزة، وما رافقها من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وعلى رأسها ذلك التحول، أو تلك الطفرة الصادمة لكل المراقبين والمتمثلة في ترسيخ نظام حكم ديمقراطي تعددي نيابي، ما يعني تقديم تجربة نادرة التحقق في المنطقة العربية التي غلب على طبيعة الحكم فيها الطابع الديكتاتوري الشمولي المتسلط، أو الأسري الحصري كما هو حاصل في مملكات وإمارات الخليج المجاورة .. لقد شكل اختيار الحكم الديمقراطي مبعث فخر واعتزاز من جهة، ومصدر ضوء واستقطاب للاهتمام والإعجاب مرة أخرى ,ليس من قبل أنظمة المنطقة في الغالب، وإنما من قبل شعوبها التي لم تتعود سوى على القهر والاستبداد وإطلاقية الصوت الواحد للحاكم وحسب.
وهذا بالطبع ما نعنيه حين نقول إن قيام الوحدة اليمنية لم يكن فاصلة تحول مقتصرة على اليمن وحدها، وإنما ربما عموم أنظمة المنطقة وشعوبها، ففي حين أثر هذا الحديث على عامة شعوب المنطقة واستجلب إعجابها واندهاشها وحركها من الداخل لتبدأ في الغليان رغبة وطموحاً في مماثلة التجربة في بلدانها اقتداء بهذا الشعب الأقل مستوى منها ربما في الإمكانات المادية والمستوى التعليمي والتثقيفي والقدرات والثروات، بدأت الأنظمة المستحكمة على تلك الشعوب المغلوبة على أمرها تشعر بخطورة مثل هذه التجربة في منتصف أو وسط بلدان ، كانت طموحاتها أدنى من أن تصل إلى التفكير في نهج الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي .. ومبعث ذلك الخوف والشعور بخطورة التعايش مع هذه التجربة ، أنها قد تكون بذرة أو بداية لانهيار ممالكها الأسرية وحلحلة قبضتها الفولاذية على رقاب هذه الشعوب .. وهو ما استدعى هذه الأنظمة منذ الوهلات الأولى إلى الاشتغال على هذه التجربة ومحاولة تقويضها بهدوء وعن بعد، رغم ما كانت تبديه من مباركة وتأييد وابتسامات رضى ماكرة، يكمن وراءها الكثير والكثير من الحقد والكراهية من جانب، والاشتغال على تقويض وإفشال التجربة بكل الإمكانات وهي إمكانات كبيرة وكبيرة جداً تمتلكها هذه الأنظمة الثرية أو الفاحشة الثراء .. وهو ما عملت عليه طوال العقدين الماضيين في محاولة منها إظهار فشل هذه التجربة خصوصاً أمام شعوبها التي بدأت تحدث الكثير من الضغوطات والمقارنة بين أنظمة الحكم في بلدانها الثرية وفي هذه البلد البائس الفقير الذي يقدم تجربة رائدة تبعث على الإعجاب وتستحق الاحترام.
إنه اليوبيل الفضي لوحدة اليمن.. والذي كان يحدونا الأمل وتدغدغنا الأمنيات في أن نحتفل به وقد خطا اليمن المزيد من الخطوات في مجالات التنمية والتقدم والتطور، وهي إنجازات كانت أكثر من مهيأة لو أن خطوات الوحدة استمرت في ذات النهج الذي انطلقت عليه أو فيه مساراتها وخطواتها المتسارعة الجادة نحو تقديم النموذج الديمقراطي الوحدوي والقومي والعروبي الحقيقي نحو المشروع القومي العربي الكامن في أحلام وأمنيات وتخيلات كل العرب والمتمثل في تحقيق وحدة عربية شاملة جامعة، تقدم العالم العربي كنموذج إنساني وثقافي رائد، مثلما له عراقته وأصالة مكونه، له مشروعه العصري التقدمي الذي يخدم البشرية وفي مقدمتها شعوب هذا العالم الذي ذاق من القهر والتهميش والإقصاء ما لا يليق بمكانته الحضارية والتاريخية والإنسانية.
لقد كانت وستظل الوحدة اليمنية ذلك المشروع الكبير والأكبر مما يخطط ويحيك له أمراء النفط وناهبو الثروات التي هي من حق شعوبها جمعاء، وليس من حق أسرة آل فلان أو العائلة الفلانية حق الاستئثار بها وبناء امبراطورياتها المالية من عائداتها مقابل ذلك النزر اليسير الذي تجود به بمنة بالغة على شعوبها المقهورة التي هي في الأصل صاحبة الحق الأكبر في امتلاك تلك الثروات والاستفادة من عوائدها..
نعم سيحاربون الوحدة اليمنية والتجربة اليمنية المثالية في الديمقراطية والحرية ونماء الإنسان وتنميته وسيقفون حائلاً دون استمرار تحققها.. ولكن ستظل الوحدة خياراً مطلقاً أبدياً وسيظل الإنسان اليمني يقاتل من أجلها لإيمانه المطلق بأنها أساس وما سواها طارئ واستثناء.